كل شيء على ما يرام
إبراهيم شرارة
كنّا نظن أننا نقف على الحافة. كنّا نعرف أن دفعة خفيفة واحدة تكفي لترمي بنا إلى الأسفل، أن يداً واحدة تكفي، لكننا صدّقنا أننا محصنّون من الوقوع. صدّقنا أن حروبنا مؤجلة. أن عمق الهاوية التي تظهر ماثلة أمامنا ستردعنا عن القفز.
كنّا نظن أننا نقف على الحافة. لكننا الآن، بينما ننظر إلى الأعلى، إلى حيث كنا نظنّه خطاً أحمر لن نتجاوزه، نكتشف أننا وقعنا بالفعل. أن الحافة كانت وهمنا فقط. أن مصالحاتنا ومصالحنا ووحدتنا وعيشنا المشترك لم تكن إلا وهماً. وهمنا الذي لم نعد نطيق تأجيل دفنه. نكتشف أننا كنا جاهزين لنلبّي نداء القفز، ونحن الآن نسقط بالفعل. نكتشف أننا من زمان تركنا الحافة، تركناها بملء إرادتنا، ونحن اليوم في طريقنا إلى الأسفل.
لسنا نتشبث بالحياة. لم نحاول ذلك أصلاً. لم نترك الحافة ولم يرمنا أحد، بل قفزنا عنها. قفزنا وسعينا جاهدين لنعلن ذلك. اليوم لم نعد أكثر من راغبين بالموت. الموت لنا والموت لهم. الموت بوصفه الحدث الوحيد الذي كان قادراً على إخراجنا من الوهم. وقد أخرجنا بالفعل. كنا نستدعيه لنستطيع معه وبعده أن نقول أننا خلصنا. أن نقول كفى. أن الحافة ليست مكاننا. أننا تخلّصنا من هذا الوهم الذي حملنا عبأه طويلاً.
كنا نستدعيه، ولفرط ما انتظرناه، حلّ كاحتفال كبير. لم يكن ليليق به أقل من هذا الاحتفال. هذه الجنائز والأهازيج والورود والأرزّ المنثور على القتلى. هذا الاستعداد لتقديم المزيد من الأضاحي. هذا الموت العظيم، موتنا المشتهى، موتنا الإرادي، انتحارنا.
اليوم نعدّ القتلى ونتابع طقوس سقوطنا العظيم. حتى السقوط البطيء لم نكن لنرضى به. وقوفنا الطويل أفقدنا أعصابنا. ما أن أتيح لنا أن نعلن سقوطنا، أن نعترف به ونكشف عنه، حتى رحنا نستعجل هبوطنا. رحنا نمارس كل ما من شأنه أن يعجّل وصولنا. نستعيد غرائزنا الأولى، نعلن انقساماتنا ونكشف أكاذيبنا التي كنا نخبئها خلف ستار الوهم، نستدعي كرهنا وأحقادنا وعداواتنا، نعلنها بوضوح وصدق، كأننا نتخفف منها في سقوطنا، ليغدو أسرع، ليكون سقوطنا حقيقيا ونهائياً.
اليوم، ندرك أننا تركنا الحافة من زمان. أننا نتجه بسرعة إلى القعر، نراه يقترب ولا يردعنا عن الوصول إليه شيء.
لكننا، بينما نقع، لا زلنا نردد أننا بخير. أن كل شيء، حتى الآن، على ما يرام.