كل هذا الحقد!
عبد الوهاب بدرخان
بين القدرات والخبرات و”الإبداعات” التي تتقنها الأنظمة الاستبدادية، يبدو أنه من الصعب العثور على خبرتين تبقيان ضروريتين، الأولى: وضع سقف للمبالغة في تأليب الحاكم أو وضع قاعدة للمبالغة في احتقار الشعب، والثانية: استباق النهاية المحتومة أو الاعتراف بها عندما تحين بغية وضع استراتيجية خروج آمن ومشرف.
وفي الحالات الأربع التي تفجرت عربياً خلال الشهور الثلاثة الماضية أي في تونس ثم مصر وليبيا واليمن، وإلى حد ما في الحالة الخامسة المتمثلة بسوريا، لدينا أنظمة حكم وحكام مضت عليها وعليهم عقود عدة، ومن الواضح أنه لم يكن يخطر ببال أي منهم أن كرسيه سيتعرض لأعتى العواصف، لاشك أن ردود فعل الحكام اختلفت من بلد لآخر، إلا أنهم بدوا جميعاً كأنهم يقرؤون في “دليل” واحد يعطي الوصفات الممكنة للتمسك بالسلطة ولإحباط الاحتجاجات.
الأكيد أن التنحي بات يشكّل المخرج الأكثر تمدناً، حتى لو تم قسراً وعلى مضض، ثم إنه يدل على وجود دولة قادرة على النهوض لأن ثمة ضمانة تركت لها، رغم كل العبث والتسلط، وهي مؤسسة الجيش. أما العناد والإصرار على إبقاء النظام فكشف أن أصحابه تصرفوا أيضاً بهذه المؤسسة وأخضعوها لنزواتهم السلطوية مفضلين عليها نهج العصابات والميليشيات التي حاولوا إلباسها ثوب الشرعية، لكن يظل النموذج الليلي فريداً بشواذه، خصوصاً على مستوى الرأس والقيادة. إلا أن ما يجمع بين تجارب الضاد أنها تهيأت لإشعال حروب أهلية، كانت موجودة دائماً وكامنة، إلا أن السطوة الأمنية كانت دائبة العمل على كبتها.
تقليدية أو تقدمية، أقرب أو أبعد إلى الحداثة، منعدمة أو متوسطة الانفتاح… تلك دكتاتوريات آل مصيرها إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصالح “العائلة” ومنافعها، فأبناء القذافي انتقلوا من القتال من أجل نظام الوالد إلى القتال من أجل العائلة، وقد ينتقلون إلى القتال من أجل حكم بقيادة أحدهم.
واليوم كان آخر عرض قدمته المعارضة للرئيس صالح أن يسلم السلطة إلى نائبه، لكنها تحدثت بتفصيل عن ضرورة إعادة هيكلة القوات المسلحة لإنهاء الازدواجية بين الجيش والحرس الجمهوري والأمن الوطني، ما يعني حسم الأمر لمصلحة جيش الدولة والشعب لا للشقيق أو الابن أو ابن الشقيق. وهناك جوانب شبيهة في الإشكالية السورية ذات صلة بالعائلة والأنسباء، وبالحزب والطائفة، وهي التي زرعت الغضب والنقمة وبالتالي يتوجب الاعتراف بأنها تطبيقات نفذت بوطأة التسلط لا بتطور منطقي للسلطة.
لعل الثورة التي اجترحتها الاحتجاجات الشعبية وضعت “شرعية” هذه الأنظمة بين مزدوجات، فأصبحت تحت الشكوك والضغوط ولم يعد ممكناً ترميمها لا بالقتل والمزيد من القتل ولا بالغاز المسيل للدموع ولا بحملات الاعتقال ولا باسترخاء البعض لشرذمة الكل ولا باستمالة ساحة ضد ساحة ولا بوعود إصلاحية ولا حتى بالاستنجاد بـ”المؤامرات” أو بالعدو الخارجي المتربص بالوطن… فكيف يمكن أن يستقيم وطن لا وظيفة له أرضاً وشعباً سوى أن يكون وقوداً لهزائم الحاكم أمام العدو، الهزائم التي لا تنفك تصلّب دعائم حكمه فيما تمضي في إضعاف الشعب والبلاد.
كانت المفاجأة الأكثر بشاعة ولا تزال اكتشاف مدى الحقد والاحتقار والاستهانة التي يكنّها هؤلاء الحكام لبلدانهم ومواطنيهم، وحدهم الموظفون كجلادين يمكن أن يُطلب منهم إعدام مشاعرهم وعقولهم ليتأهلوا للعمل المطلوب منهم، والأكيد أن أياً من الجلادين لم يكن يتصور أن وظيفته تختصر عقلية النظام الذي يخدمه، ولا يقتصر الأمر على شذوذات الأمن، إذ أن ممارسات منظومة الفساد يمكن أن تكون أكثر فداحة، بالأخص حين ينخرط فيها جيش من الأتباع والمحازبين من أعلى الهرم نزولاً، بل أيضاً حين لا يتورع هؤلاء عن التصرف بكل شيء، من أمن الدولة إلى أرضها وثرواتها وصولاً إلى قوت الفقراء الذي يستقطع منه تمويلاً للحملات الدعائية لانتخابات يراد أصلاً تزويرها… هذه التحولات العربية تفتح البصائر على أمراض سياسية اعتقدت الإنسانية أنها تجاوزتها.
الاتحاد