كم مرة أربكني سؤال الغربة الجارح !
محمد كتيلة
منذ حلت اللعنة الأولى على دمشق، أجفل الغيم واغتربت سماء… ذهل صيف واكفهر أكثر من شتاء، أطبقت العتمة واحتل الصمت سويداء القلب… ذبلت عيون وشاخت قلوب، غابت أشواق وانداحت زرقة السماء وراحت تبكي على أولادها الذين ترعرعوا في صحا رى الفقر الشاسعة وواحات الذل والشقاء، فأصيبوا في داء الحرمان من كل ما يتعلق بالوطن وشؤون البلاد من مغربها حتى مطلع الشمس .
منذ أصابت اللعنة الأولى قلب دمشق الشقية وأخواتها من بقية المدن الساحرات الطاعنات في القهر والجوع والمذلة، نغادر البلاد كارهين أومكرهين وفي ذات الوقت والضياع وفي قمة الوداع الأليم كنا نتمسك بالهواء الدامع الحزين لنبقى فيها .
وما أن حلت اللعنة الثانية المتممة لبداياتها الأولى وقامت القيامة ،أُطفأت المصابيح المعلقة على أبواب دمشق السبعة، وصرنا نغادر دمشق إلى بلاد غريبة، كنا نحبها من البعيد البعيد، ولا نتوق للعيش فيها، إلا إذا أحوجتنا ضرورات الحياة، أو لأسباب الشقاء المر، الدائم اللئيم والمعمم، والذي لم تنقطع حلقاته وسلاسله الشائكة منذ أكثر من خمسة عقود من القيود والإستعباد والفوضى والفساد وإحتقار البشر واعتبارهم كأعداء دائمين لأسرة مارقة، لا نعرف حتى هذه اللحظة أسباب كراهيتهم العمياء للوطن والمواطن على حد سواء.
كنا نغادر دمشق لنسافر ونبحر فيها وفي محبتها، بغية التودد إليها من بعيد، لنقترب منها أكثر.. نغادرها ونودع أنفسنا فيها قبل وداع الأخرين، ونكاد لا نعرف من الذي يودع من، كنا نستدرج الوجع على مقامات حزينة مشبعة بالحجاز والنهوند، ونسرع نسرع، نقتفي أثارنا ونرمي الشباك على أطلالنا، ونتيه ونضيع ونبتعد ونغترب، ونستعد لزيارات طارئة أو لإستغاثات الموت للبعيدين عن مهجة القلب وثناياه المقطعة، والزمن لم يكن أكثر من سحابة من رماد، بوابة كبيرة وعالية، نخرج منها وندخل في ذات الوجع ورجع الصدى الموحش، ولا شئ يتغير أو يتبدل، والكل في دوامة الفراق يتزاحمون ويوعدون بآخرة يغلب عليها نعاس الموت المحدق.
كم سنة من التعذيب والترهيب أُُجبرنا غلى كراهية الحياة وذواتنا المغدورة والممنوعة من الإقامة والسفر.. كم سنة من الإقامة الإجبارية والتية والضياع والملاحقة والمتابعة، أرغمونا على الإنفصال عن دمشق الآسرة وبقية المدن الوادعة!! فإذاً كان لا بد من الهرب أو الإبتعاد، لنبحث عنها /عنهن في بلاد أخرى، لنحبها كما هي وكما كانت وكما نعرفها وكما نشتهيها أن تكون: حرة لا تطيع إلا من يحبها ويعشقها أكثر، طيبة بسيطة، نتمنى ألا نموت إلا في ظلالها، سهلة متواضعة وبلا تشويه، نظيفة ورائقة المزاج وهادئة…. كنا نغادرها ونبتعد عنها كي لا تغادرنا، لأجل الحنين إليها، إلى ماضي طفولتها وريعان صباها وفتوتها، لكل ما علق منها فينا وما تبقى منا فيها… كنا ولا زلنا نصعد إلى أعلى ما فينا من شوق ومحبة، ونغترب ونبتعد ونقترب منها بخوف ووجل، فالمسافر منا والمبعد على وجه السرعة والغضب، يستعجل الوصول إلى البلاد الأخرى ليقترب أو ليتقرب من دمشق عن بعد، ليراها كما يحب أن يراها وكما حفظها في روحه وعن ظهر قلب وطيب خاطر، لا صخب فيها ولا فوضى، لا سجناء ولا قتلى، لا سيد فيها على الوقت والزمن والرقاب، ولا وجود لعبد خانع ومخنوع، لا سجون ولا معتقلات إلا لآكلي لحوم البشر وأيامهم وغدهم والمستقبل… في البعيد وفي أقاصي الشوق والحنين، كنا ندرك كم هي أم وأب وأخ وأخت وزوجة وحبيبة وصديق وصديقة وجار/جارة رضى وفتنة للمحبة، وسماء رحبة لرقص الحمام وأرض سخية صلبة …ننام فيها ونصحو عليها، وكم تصير هي وفي كل يوم من أيام الإغتراب، قبلة الصباح الأولى، وتعريشة للمساء في آخر الليل، وفلة يندر أن يخلو الحديث عنها ومهما طال السفر والسهر، ومهما قصر، ومهما اختلفت المشارب وتضاربت الأهواء.
في أصياف الإشتياقات الحارقة اللاذعة الملتاعة للمنفيين، كم مرة أربكني سؤال الغربة الجارح: ألا تحن إلى الشام وأهلك ؟
وكم مرة أجبت بمرارة وغصات حادة في القلب: نعم أحن إلى أهلي وأهلها، ويعنفني حنيني كلما ضاق بي الصبر واشتد إوار الحنين… وكم مرة جوبهت بسخرية الكثيرين المتعالية على ما يطفو ويرشح من مآسي الواقع التي تفقأ العين وتلطم الخد، حين كنت اقول وبدون تردد وبلا حذر: حين ينتهي النظام أو بعدما يسقط النظام.
أقلهم تشاؤماً، كان يرد علي بقسوة جارحة: هذا يعني أنك لن ترى أهلك مطلقاً !
وأكثرهم تفاؤلاً، كان يلتبس عليه جوابي، فيصطنع إبتسامة غير مفهومة، تخفي في ثناياها موجات غائمة من خوف بعيد، وملمح غير مرئي وشاحب لتعاطف متكلف ومبهم، قبل أن يقول: على ما يبدو أنك لا تنوي الزيارة ولا تفكر بها في الأساس !
ومن بين هؤلاء، لا زلت أتذكر وبوضوح تام، ذلك الدمشقي العريق، الذي صوب كلامه إلى قلبي متوخياً تحريك الجمر الثاوي تحت الرماد، بمودة خالصة، وخالية من التزوير وتزويق الكلام، وبحيادية مدروسة بعناية فائقة، تحسباً من طوارئ الوشاية من اللاأحد القابع في دمه، إذا ما فكر بالعودة، والتي كان يتهيأ لها في السر قائلاً : إلى أين نغادر أو نسافر ومهما ابتعدنا أو اغتربنا، ما لنا غير ميات (مياه ) الشام، والنظام لا يقترب منك إلا إذا اقتربت منه !
لم يدهشني كلامه، بل أبكاني في الصميم وبدل أن أصرخ في وجهه قلت له: سأسلك سؤال وأتمنى عدم المواربة في الجواب، وإذا ما واربت ستنكشف على نفسك قبل أن أكشفك: ألا تشعر بالخوف يحاصرك ومن كل الجوانب وقبل أن تصل أرض المطار في دمشق، وهل أنت أنت عندما تصوَّب عليك نظرات رجالات الأمن الجائرة، متهمة إياك بكل أنواع الشرور في العالم وما أنت إلا مجرم ومحتال وهم بانتظارك منذ زمن بعيد، أي منذ غادرت البلاد ؟؟
وما الذي يبقى منك وهم يمطرونك بالأسئلة الفارغة من أي معنى أمام أطفالك وزوجتك، وكأن البلاد بلادهم ولا تخصك بشئ، وما أنت إلا بغريب ومنبوذ ومطلوب ومطارد وملاحق ! ألا تتمنى أن تبتلعك الأرض في تلك اللحظات اللعينة، على أن تقف بين أياديهم الوسخة ونظراتهم الوقحة، مستلب ووحيد وأعزل ! ألا تتقلب على ذاتك المقهورة وتقول: يا ليتني لم أغادر ويا ليتني لم أرجع! يا ليتني ما كنت ولا رأيت ولا خلقت، يا ليتني بلا أهل وبلا أسرة! ماذا لو تجاسرت وتفوهت بأدنى كلمة وتمنعت عن الدفع وقالوا لك يجب أن تراجع فرع الأمن الفلاني، أو اقتادوك مخفوراً إلى مصير مجهول، قد يكلف أهلك ما لا طاقة لديهم عليه وماذا وماذا وماذا ؟
كفى كفى كفى، وقبل أن تسقط الدمعة من عينيه، أردف بشفتين مرتجفتين : ما باليد حيلة.
فأشفقت عليه وعلي وقلت ممتعضاً وأنا أداري عنه غضبي : وماذا عن اليد الأخرى ؟؟؟
أعرف أنه هناك، وأعرف أنه من عسال الورد، وكم أتمنى أن يكون على قيد الحياة !!!!!
كاتب فلسطيني يقيم في كندا