صفحات العالم

كيانات المعارضة السورية قبل مؤتمر الرياض وبعده/ ماجد كيالي

 

 

واقع الكيانات السورية

مشكلات ومقترحات أولية

لم تستطع المعارضة السورية بناء كيان سياسي جامع يمثل أغلبية السوريين، على تعدّد مكوناتهم الدينية والمذهبية والإثنية، وتنوّع خلفياتهم الفكرية والسياسية والطبقية؛ رغم كل التضحيات والمعاناة والأهوال التي مر بها السوريون منذ اندلاع ثورتهم قبل أكثر من ست سنوات.

وكما هو معلوم؛ فقد أخذ البعض على الثورة السورية-منذ اندلاعها 2011- أنها جاءت بمثابة حالة انفجارية عفوية لم يكن يتوقّعها أحد، بيد أن هذه هي حال الثورات عموماً، وإن كان ما يميّز الحالة السورية هو حرمان السوريين من السياسة، وافتقارهم إلى حركات وأحزاب سياسية وازنة وذات تجربة، بسبب القبضة الحديدية وسياسات الرعب والترويع التي انتهجها النظام، وتحكّم عبرها في المجال العام حوالي نصف قرن.

وفي الحقيقة؛ فإن ثورة السوريين اندلعت وهي أحوج ما تكون إلى طبقة سياسية قيادية ذات تجربة، وتحظى بإجماع -ولو كان نسبيا- لإدارة الحالة السياسية الناشئة. وفاقم هذا الفقدان مسارعة أطراف دولية وإقليمية وعربية إلى التدخل في الصراع السوري، بما في ذلك إيجادها الطرق والوسائل التي تمكّنها من التحكم في الحراك الثوري السوري، بل وصوغ خطاباته وتحديد طرق عمله.

بيد أن ما كان طبيعياً أو مفهوماً في البدايات -قبل ستة أعوام- لم يعد كذلك بعد كل هذه التجربة، مما يُستنتج منه أن الثورة السورية أخفقت في إنتاج طبقة سياسية تعبّر عنها، أو في إنتاج كيان سياسي يمثلها، وهو أمر ما زالت تكابد نتائجه الخطيرة حتى الآن.

مناسبة هذا الكلام هي شيوع تخوفات في أوساط المعارضة من احتمال إنشاء كيان سياسي جديد بديل للهيئة العليا للمفاوضات، ربما يجري تخريجه في اجتماع موسع يعقد بالعاصمة السعودية الرياض (في أكتوبر/تشرين الأول القادم)، مع احتمال أن يأتي هذا الكيان بديلاً للائتلاف والهيئة في آن معا، تكيفاً مع الظروف على الأرض ومع التحولات الدولية والإقليمية في الصراع السوري.

ومن ضمن ذلك التخلي عن المبادئ الواردة في بيان جنيف 1 (عام 2012). وفي الواقع؛ فإن هذه التخوفات تخوفات ناجمة في حقيقة الأمر عن هشاشة كيانات المعارضة وضعف فاعليتها، وتآكل شرعيتها وصدقيتها في مجتمعات السوريين بالداخل والخارج.

واقع الكيانات السورية

كما شهدنا؛ فإن المعارضة السورية تمثّلت في عدة كيانات سياسية، وهي “المجلس الوطني السوري” (تأسّس أواخر 2011)، و”الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” (تأسّس أواخر 2012)، و”الهيئة العليا للمفاوضات” (تأسّست أواخر 2015 ولها مهمات تفاوضية فقط)، إضافة إلى كيانات المعارضة العسكرية المحسوبة على الثورة، والهيئات المدنية التي تشتغل ضمن المعارضة؛ علما بأن ثمة كيانات معارضة غير منخرطة في أي من تلك الكيانات.

ومشكلة الكيانات المذكورة (السياسية والعسكرية والمدنية) أولاً، أن كل واحدة منها -وحتى على صعيد كل جماعة فيها- تشتغل بمعزل عن الأخرى، بمعنى أنه لا توجد هيكلة واحدة لكل هذه الإطارات. ومثلاً، فإن الائتلاف الوطني -وهو الكيان الرسمي للمعارضة ويحظى باعتراف دولي وإقليمي- يتألف من عدة مكونات، كل واحدة منها تتنافس مع الأخرى، مع ملاحظة ضعف المكانة التمثيلية لكل واحد من الكيانات التي يتألف منها.

ثانياً، ضعف العلاقة بين كيانات المعارضة السياسية والكيانات العسكرية، إذ إن كل جماعة عسكرية أضحت تعتبر نفسها بمثابة الممثل الحصري للثورة، مع عَلَم خاص وموارد وعلاقات خارجية، وحتى خطابات سياسية خارج الخطاب الأساسي للثورة.

ثالثاً، لم تستطع الكيانات السياسية أن تراكم تجربة عملية أو جبهوية، بسبب تنازل مكوناتها وانشغالها بالمنافسات الضيقة والمضرة. فمثلا، تناوب على رئاسة المجلس الوطني عدة أشخاص (برهان غليون، وعبد الباسط سيدا، وجورج صبرا)، في حين تناوب على رئاسة الائتلاف ستة أشخاص (معاذ الخطيب، وأحمد الجربا، وهادي البحرة، وخالد خوجة، وأنس العبدة، ورياض سيف).

وهذا يشمل تغيير وفود التفاوض في جنيف، وضمن ذلك فتح مسار تفاوضي آخر هو مسار أستانا (العسكري) منذ مطلع العام الجاري؛ مما يشير إلى حالة الاضطراب وضعف الانسجام في هذه الكيانات.

رابعاً، لم ينشأ “المجلس الوطني” وبعده “الائتلاف الوطني” ثم “الهيئة العليا للتفاوض” نتيجة حراكات سياسية بين الكيانات أو الجماعات أو الشخصيات السياسية المعارضة، أو نتيجة نقاشاتها البينية، أو قناعاتها الذاتية، بقدر ما نشأت هذه الكيانات -على النحو الذي شهدناه- بالضغوط الخارجية، الأمر الذي أثر سلباً على صورتها وصدقيتها، وعلى طرق عملها، وعلاقاتها بشعبها.

وكانت المعضلة الأساسية هنا هي افتقار هذه الكيانات إلى أية واسطات بينها وبين مجتمعات السوريين، أو عدم قدرتها على صنع ذلك، وقبولها تعاطي القوى الخارجية مع الجماعات العسكرية بصورة مستقلة عنها والتعامل معها وكأنها تابعة، وليس على أنها بمثابة قيادة لواحدة من أهم وأنبل الثورات في العالم العربي.

خامساً، بدت هذه الكيانات وكأنها تعزل نفسها عن مجتمعات السوريين في الداخل والخارج، ناهيك عن أنها لم تفعل شيئا لتعزيز مكانتها في قيادة ثورتهم، لا سيما لجهة الحفاظ على الخطاب الأساسي للثورة المتعلق بالحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية، بحكم مجاملتها خطابات الجماعات العسكرية “الإسلامية” المتشددة، وحتى لجبهة النصرة، الأمر الذي أضعف صدقيتها وشوّش على صدقية الثورة السورية.

سادساً، نشأت هذه الكيانات وفقاً لمعادلات الاعتمادية والارتهان للخارج، الأمر الذي أضعفها وأضعف معها ثورة السوريين. وإذا احتسبنا -مع ما تقدم- حجم القوى التي دعمت النظام (لا سيما روسيا وإيران) في مقابل التخلي أو الخذلان أو الإنكار الدولي والإقليمي والعربي لثورة السوريين، أو لحقوقهم وتطلعاتهم المشروعة؛ فيمكننا فهم الصورة الكاملة التي أدت بالحالة السورية وبالكيانات السياسية والعسكرية والمدنية إلى التردي.

وضمن ذلك فهم اضطراب المعارضة مع الأنباء التي تتحدث عن إعادة تشكيل “الهيئة العليا للمفاوضات”، أو التي تتحدث عن أفول دور “الائتلاف”، أو التي تتحدث عن إعادة هيكلة الكيانات العسكرية، مع إدراكها مدى ارتهانها للخارج.

مشكلات ومقترحات أولية

مع أن المعارضة أخفقت في بناء كيان سياسي جامع يعبّر عن السوريين، وينظم طاقاتهم ويقود كفاحهم، ويصوغ هوية وطنية جديدة للسوريين؛ إلا أن إخفاقها في المجال العسكري كان هو الأكثر خطورة والأعظم أثرًا.

وكما شهدنا؛ فقد دخلت الكيانات العسكرية “الإسلامية” -وبالأصح التي تتغطى بالإسلام- والمحسوبة على المعارضة السورية في عمليات متواصلة من الاقتتال فيما بينها، علماً بأننا نستثني هنا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) و”جبهة النصرة” وأخواتهما، بحكم أجنداتهما المختلفة، ومناهضتهما لأجندة الثورة السورية واشتغالهما في قتال “الجيش الحر” والفصائل العسكرية الإسلامية الأخرى.

وعلى العموم فقد كانت نتيجة عمليات الاقتتال هذه -كما شهدناها- هي إضعاف الكيانات العسكرية، وسقوط عدد من المناطق في أيدي النظام وحلفائه على امتداد الخريطة السورية؛ كما جرى في حلب مثلا (أواخر العام الماضي)، أو في غوطة دمشق الشرقية هذه الأيام.

وفي الواقع؛ فإن معظم كيانات المعارضة العسكرية نشأت مأزومة لأسباب متعددة، أهمها: أولاً، أنها كانت نأت بنفسها عن المعارضة، إذ لم تنضو في أطرها الجمعية، وفضلت الإبقاء على استقلاليتها أو على حالتها الخاصة، بما في ذلك مواردها المالية والتسليحية وتحكمها في المناطق التي تخضع لسيطرتها، مما أضعف صدقية الثورة وأضعف تلك الكيانات ذاتها.

ثانياً، شكلت هذه الكيانات نوعاً من “الانشقاق” في الحراك السوري، فهي انتقلت من الخطاب السياسي إلى الخطاب الديني، ومن الخطاب الوطني إلى الخطاب الطائفي، بعد أن تصدرت مشهد الثورة السورية منذ انحصار الفعاليات الثورية في المعارضة المسلحة.

ثالثاً، ما يفاقم الأمر أن هذه الكيانات لم تنشأ -أو لم تصعد- نتيجة حراكات داخل التيارات الإسلامية المعتدلة والمدنية التي كانت تعمل في سوريا، سواء تعلق الأمر بالإخوان المسلمين أو بالجماعات الصوفية أو الدعوية، كما أنها لم تأت نتيجة تطور طبيعي في تصاعد المواجهات العسكرية مع النظام؛ بل إن هذه الجماعات نشأت وصعدت بفضل الدعم الخارجي، وفي ظل فراغ سياسي ناجم عن حرمان السوريين من العمل السياسي، وضعف قدرتهم على توليد كيان وطني ديمقراطي.

رابعاً، هذا يعني أن هذه الكيانات -التي تحتاج إلى دعم مالي وتسليحي ولوجستي مستمر من هذه الدولة أو تلك- نشأت مرتهنة لهذا الدعم، وتاليا لأولويات وسياسات وتوظيفات هذه الدولة أو تلك أيضاً.

خامساً، ظلت الحمولات الفكرية الإسلامية في هذه الجماعات ضعيفة؛ إذ لم نشهد لها إسهامات فكرية طوال السنوات الماضية، والأهم من ذلك أنها فرضت ذاتها بفضل قوتها العسكرية الناجمة عن الدعم المالي والتسليحي والسياسي الذي مُنح لها من بعض الدول العربية والإقليمية، التي رأت في دعم هذه الجماعات فرصةً للتحكم في مسارات الثورة السورية، والحد من تأثيراتها الخارجية، وأيضًا لتوظيف هذه الورقة في تعزيز نفوذها الإقليمي.

سادساً، مشكلة هذه الكيانات -وخاصة الكبيرة منها- أنها تحولت إلى سلطة في المناطق “المحررة” التي تسيطر عليها، والمشكلة أنها لم تنجح لا في إدارة هذه المناطق، ولا في تأمين الحماية لها، ولا في تقديم نموذج بديل لسلطة النظام فيها.

بل على العكس من ذلك؛ انطوت سلطتها على التعسف وانتهاج القوة في التعامل مع مجتمعات السوريين في هذه المنطقة أو تلك، الأمر الذي جعل المناطق “المحررة” مناطق نابذة للسكان، إن بسبب الحصار أو القصف المستمر الذي تتعرض له من النظام، أو بسبب الممارسات التضييقية والتعسفية للفصائل العسكرية.

ولعل ما يحتاجه السوريون اليوم -أكثر من أي وقت مضى- هو: أولاً، مبادرة تغيّر هذه الحالة وتعيد الاعتبار للأهداف الأساسية التي أطلقوا من أجلها ثورتهم، وهي الانتهاء من نظام الاستبداد، وإقامة دولة مواطنين أحرار ومتساوين في دولة مدنية ديمقراطية، دولة مؤسسات وقانون، فهذه هي الأهداف الجامعة التي يمكن أن توّحد السوريين وأن تفضي إلى سوريا واحدة، للجميع كمواطنين وكجماعات من أي نوع.

ثانياً، السوريون بحاجة ملحة اليوم لإنتاج مبادرة تفضي إلى تشكل طبقة سياسية، وكيانات جامعة تمثل كل السوريين بتنوعهم وتعدديتهم، وتضع مصالحهم وحقوقهم على رأس أجندتها قبل أي أحد آخر، مما يُنهي حالة التدخلات والرهانات الخارجية.

ثالثاً، المطلوب هو بناء كيان سياسي وطني وجبهوي، أي لا يتبع حزبا أو لونا أيديولوجياً معينا، على أن يقوم على قواعد مؤسسية وتمثيلية وديمقراطية ونضالية، وعلى أساس المؤهلات المناسبة، ويستمد شرعيته من مجتمعات السوريين في الداخل والخارج، وليس مجرد كيان أو كيانات منغلقة على ذاتها، وتشتغل كمجرد موظفين أو معارضة مكتبية بمعزل عن شعبها.

هذا هو التحدي أمام السوريين، وهذا عمل لا يمكن لأحد أن يقوم به عنهم إذا لم يقوموا به هم أنفسهم، ووفقا لإدراكاتهم وتجاربهم الخاصة، رغم خلافاتهم وتنافساتهم التي هي طبيعة الأشياء، ومن مستلزمات السياسة ذاتها.

جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة

2017

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى