كي لا تتقمص الضحية دور جلادها: الثورة السوريّة ومخاطر انزلاقها
خلدون النبواني
لعل أخطر ما تتعرض له الضحيّة في صبرها على قسوة الجلاد وساديته، لا يقتصر فقط على آلام الجسد وقروحه وجروحه النازفة، بل لعله يتمثَّل أساساً في تشوهات الروح التي قد تقود الضحية إلى انحرافٍ نفسيٍّ خطير يتمثَّل في تقمصها شيئاً فشيئاً لشخصية الجلاد وطباعه. في تلك العلاقة غير المتوازنة ما بين ضحيةٍ ليس لها سوى الصبر وجلادٍ يمتلك كل وسائل القمع ولديه من الحقد ما يمنحه طاقةً حيوانيّة لسوط جسد الضحية بعنفٍ غريزيِّ بدائيِّ بربريّ، يتحول صبر الضحية الذي طال إلى حقدٍ كامن ينتظر لحظة الانتقام. وإذا ما حانت تلك اللحظة وتغير اتجاه فتح باب السجن ليصبح الداخل خارجاً والخارج داخلاً، تتغير الأدوار وتستولي الضحية على سوط الجلاد وسلطته وعندها لن ينقصها الحقد الكافي لتذيقه مرارة ما أذاقها من مهانة وبنفس أُسلوبه البربريّ الهمجيّ اللاإنسانيّ.
ها هي حوالي أربعة أشهرٍ تكاد تنقضي على الثورة الأسطوريّة في سوريا، ولا يزال الشعب “الضحيّة” يُجلد صباح مساء بسوط ماكينةٍ أمنيةٍ همجيّة بربريّة لنظامٍ “جلاد” استبداديّ عسكريّ لا يفهم سوى لغة القمع والقتل والتشويه الجسديّ والنفسيّ! أربعة أشهر ونحن مستنفرين مستنزفين نحصي موتانا عند كل مساء ونفتح قائمة جديدة للموتى عند كل صباح. من منّا لم تغيره هذه الأحداث؟ ألم نتحوّل نحن المعارضين للنظام مع مسلسل القتل اليوميّ من عاطلين عن السياسة إلى عساكر مستنفرين على جبهة النضال ضد هذا النظام المسخ؟ ألم نصبح ـ مع كل هذا العنف اليوميّ غير المسبوق وأمام هذا الصمت العربيّ الفضائحيّ على مجازر النظام السوريّ ـ أقل تسامحاً وأشد توتراً وأقل حكمة وأكثر عصبية وأصعب مراساً وأقل ليونة وأسرع حسماً وأقل رويّة؟ ألا نعيش اليوم على حافة أعصابنا؟
لنتوقف قليلاً إذن ولنحصي عدد من ألغيناه من دائرة أصدقائنا ومعارفنا بل ومن أهلنا وأحبابنا على خلفية ما يجري في الوطن ولنتساءل: لماذا صار من السهل علينا تقسيم الناس في فئتين لا ثالث لهما معنا أو ضدنا ولنتأمل كيف كفَّ ضميرنا عن محاسبتنا عندما نلغي بضغطة زر شخصاً لم يعد مرغوباً به في مجموعتنا على الفيس بوك التي نعمل على تنقيتها وربما “تطهيرها” من عملاء النظام والمشكوك بمواقفهم بل وحتى أولئك الصامتين عن الفظاعات االمُرتكبة من قبل الشبيحة وقوى الأمن. كيف وصلنا إلى هذه الحالة؟ ألم نتقمص بذلك شخصية النظام الاستبداديّ ونستعير أدواته وأسلوبه التصفويّ الإقصائيّ التكفيريّ الذي لا يعترف سوى بلون واحد واتجاه واحد؟
لعل قسوة الأحداث تشرح لنا السبب في ذلك وتجيب على أسئلةٍ من قبيل لماذا وكيف وصلنا إلى هذه الحالة التي لم نعد نتعرّف فيها على ذواتنا التي كناها قبل الأحداث وتفسر كيف نسينا الحلم والغفران والتسامح وسعة الصبر وغض النظر عن زلات الآخرين.
ولكن هذه الأحداث نفسها لا تبرِّر لنا أن نتمثّل أُسلوب هذا النظام الأمني العسكريّ الذي لا يقبل بالمختلف ولا يتسامح معه. ليس هذا النظام قدوةً لنا وعلينا أن نتذكّر أن ثورتنا قامت أصلاً ضد هيمنة اللون الواحد وضد سياسة الإقصاء والرفض وعدم الاعتراف بمن خالفنا الرأي أو الموقف. علينا ألا نرتدي زي النظام الهمجي اللاإنسانيّ وألا نضرب بسيفه وألا نتقمص ملامحه المخيفة وشخصيته المرعبة القادمة من عصور ما قبل التاريخ وقوانين الغاب. وبكلمة واحدة على الضحيّة ألا تتقمص دور جلادها فتقتله لتلعب نفس الدور الذي كان يؤديه. ما الفائدة عندها أن نستبدل قادةً بقادةٍ يشبهونهم ونظاماً استبداديّاً بشقيقه التوأم؟ ما الفائدة ألا نبدِّل سوى المقبض من السكين الذي يحز أعناقنا صباح مساء ونبقي على النصل؟ إن إسقاط النظام هو إسقاط سياسته وبنيته و”تفكيره”.
أقول هذا لأنني ألمح هذا التغير الفظيع والمخيف الذي طرأ على تصرفاتي الشخصية كما وألحظه مثلاً في تعليقات بعض الأشخاص المعارضين على الفيس بوك الذين يجابهون عنف النظام وهمجيته بعنف مضاد وبهمجية لا تختلف عن همجية السّلطة سوى بالاتجاه.
لا شك أن الثورة السوريّة ستنتصر قريباً، ولكنها يجب أن تتمسك حتى آخر لحظة، بل وخاصةً بعد إسقاطها للجهاز الأمنيّ، بسلميتها وبتأكيدها على لا طائفيتها وعلى سعيها نحو دولةٍ مدنيِّةٍ تحترم حقوق الإنسان. رغم كل الألم الذي تسببه لنا شبيحة النظام وأجهزته الأمنية وأبواقه الإعلاميّة إلا أننا لن نهددهم بعد إسقاط نظامهم بالسحق تحت البوط العسكريّ أو حتى المدنيّ ولن “نشحط” أحداً منهم شحطاً إلى السجون ولن نهين كرامتهم كما يهينون كرامتنا اليوم ومنذ أربعين سنة. ولكننا لن نسامح الجميع كذلك، بل يجب ، بعد إسقاط النظام الحالي ـ وهو أمرٌ قادمٌ لا محالةـ، محاكمة الكثيرين ممن تلطخت أيديهم بالدماء أو حرضوا على القتل أو برروه إعلامياً، حيث يجب تقديمهم إلى محاكمة قضائية عادلة تكفل لهم كرامتهم وتراعي حقوقهم في أن يدافعوا عن مواقفهم. أما الآخرون فسنسامحهم وسنمد لهم يدنا لنبني معاً سوريا حرّة وكريمة لنا جميعاً نستعيد فيها كرامتنا المهدورة مجاناً منذ ما يقارب النصف قرن. لا للإقصاء ولا وألف لا لسياسة الانتقام و”التشبيح” أو التشبيح المضاد، لا لمجانية الإقصاء والتخوين والرفض ونعم وألف نعم للعدالة الاجتماعية وللمواطنة التعددية ولسورية حرّة لكل مواطنيها…