كي لا تستمر معاناة سوريا طويلاً
بيتر هارلينغ
من غير المرجّح أن يكون للانهيار السريع للنظام الليبي تأثير حاسم على النزاع السوري، لكنّه يُقدّم مؤشراً جدّياً عن نتيجته النهائية. لم يكن المتظاهرون السوريون بحاجة إلى رؤية الثوّار يسيطرون على طرابلس كي تتعزّز ثقتهم بأنفسهم؛ فقد أظهروا طوال أشهر عزماً استثنائياً في وجه العنف المتصاعد. لن يتراجعوا لا سيما وأنهم يعلمون أن الأسوأ بانتظارهم إذا أعادت الأجهزة الأمنية فرض سيطرتها بلا منازع. بيد أن سقوط القذافي يرتدي دلالة مهمّة لسبب مختلف: فهو يُقدّم دليلاً على الهشاشة الداخلية لهيكليات السلطة الموروثة التي عاثت فساداً في المنطقة.
تستند هذه الأنظمة في نهاية المطاف إلى الخوف والانتهازية أكثر بكثير مما تستند إلى المؤسّسات أو إلى قضيّة ما. وتنهار لحظة يدرك جيش الموالين المتعصّبين التابع لها أنه خسر المعركة. تبدو في يوم قويّة. وفي اليوم التالي، تسقط. عام 2003، عندما دخلت القوّات الأميركية بغداد، اكتشفت – وكان هذا مفاجئاً جداً لها – أن نظام صدّام حسين أجوف. وتبيّن أن النظام العملاق للرئيس التونسي بن علي هو مجرّد قزم على عكّازَين متقلقلين. وفي ليبيا، حاربت القوّات الموالية للنظام الثوّار في ما بدا وكأنّه معركة لا ينتهي إلى أن قُضي عليها فجأة.
ليس النظام السوري مختلفاً. يقول استخدامه المفرط للشبّيحة الكثير عن حال مؤسّساته، حتى في القطاع الأمني. وزعمه بأنه يجسّد المقاومة ضد ظلم الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأميركية تَبدَّد إزاء معاملته لشعبه. فُضِحت الإصلاحات وتبيّن أنها مجرّد تمثيلية. لن يتعافى الاقتصاد في عهد الرئيس الأسد، مهما طُبِّق من سيناريوات.
الدعم الوحيد الذي يحتفظ به النظام مستمَد بالكامل من المصالح الذاتية والخوف من المستقبل. لكنه لن يعود نافعاً عندما يصبح واضحاً أن النظام بات من الماضي. يبقى هناك أمران مجهولان: ما الذي سيُطلق لحظة الوضوح هذه، وكم من الأضرار سيتسبّب بها الأسد – الأضرار التي تصيب تماسك شعبه وتماسك الاقتصاد ومفهوم المقاومة – قبل أن يسقط.
ما السبيل لوقف المعاناة؟ في الوقت الذي يشعر فيه المجتمع الدولي بأن هناك حاجة ملحّة تفرض عليه التحرّك، يجب أن يبقى المبدأ الأساسي عدم التسبّب بأي أذى. يجب تفادي
خطأين كبيرَين على وجه الخصوص.
أولاً، يجب التنبّه من العقوبات الاقتصادية الواسعة النطاق. قد تكبح قدرة النظام على تمويل القمع وتقنع قطاع الأعمال بأن الوقت حان لوضع حد لهذه الكارثة الباهظة الكلفة. لكن حتى لو اقتصرت على صناعة النفط والغاز، يمكن أن ترتدّ بنتائج عكسية. ففيما تتحوّل سوريا أكثر فأكثر دولة منبوذة، تحدّ المصارف من تعاملها معها؛ وسوف تبتعد شركات كثيرة طوعاً عن سوق صغيرة تُكبِّدها مشقّة كبيرة. لكن العقوبات تمنح النظام ذريعة ليلقي بتبعات مشكلاته الاقتصادية على المجتمع الدولي معتبراً أن هناك مؤامرة ضدّه.
سوف تجد البلدان الغربية صعوبة في مقاومة فرض مثل هذه العقوبات، لا سيما وأنه ليست هناك وسائل بديلة للضغط على النظام. لكن يمكن التخفيف من وطأة أي تداعيات سلبية من خلال شرح نطاق العقوبات الدقيق – ما الذي تطاله وما الذي تستثنيه – للشعب السوري والفاعلين الاقتصاديين على الساحة الدولية. وكذلك، يجب أن تكون الشروط والآلية المحدّدة لرفع هذه العقوبات بسرعة، واضحةً منذ البداية. أخيراً، يجب أن تقترن مع خطة استباقية وذات صدقية لإنعاش الاقتصاد السوري في سياق مرحلة سياسية انتقالية بكل معنى الكلمة. من شأن مثل هذه الخطة أن تمارس التأثير الأعمق على مجتمع الأعمال في سوريا المتلهّف للحصول على تطمينات بأن التغيير يحمل فرصاً حقيقية وليس مخاطر فقط.
الخطأ الثاني الذي يجب تفاديه هو انخراط الغرب مع أفراد في المعارضة في مسعى لتوليد ما يُسمّى بالبديل ومنحه شرعية. يجب التمييز بين الحركة الاحتجاجية – التي أثبتت أنها من أهل البلد ومتماسكة، كما أنها تزداد تنظيماً وتتمتّع
بحس عالٍ من المسؤولية، لا سيما عبر التحلّي بقدر كبير من الانضباط في وجه الاستفزازات من النظام – والمعارضة التي تضم مثقّفين رفعوا الصوت ضد النظام إنما بطريقة مشوَّشة وغير منظَّمة.
يُقدّم أعضاء المعارضة المنفيّة المنقسمون حول مسائل محورها الشخصية والأنا في معظم الأحيان، صورةً عن “بديل” يذكّر كثيراً بالعراق. اتّخذ كثر بينهم مبادرات – شنّ حملات توحي وكأنهم قادة المستقبل، عقد مؤتمرات في دول منحازة، الاجتماع بمسؤولين أميركيين، اقتراح تحوّل جذري في السياسة الخارجية في المستقبل – تلحق الضرر بشرعيّتهم على الأرض وتدفع بالمتظاهرين إلى رفضهم بدلاً من الموافقة على التعاون معهم. وفي بعض الحالات، دفع غياب الدعم من القواعد الشعبية بشخصيّات معارِضة إلى التعويض عن هذا الأمر عبر الاستثمار أكثر من اللازم في سمعتها وفي الحصول على الاعتراف بها في الخارج. يجب الابتعاد عن تشجيع هذه النزعة التي تثير نفور معظم السوريين.
بدلاً من ذلك، على المجتمع الدولي أن يلحّ عليهم كي يجدوا حلولاً لمجموعة من المسائل العملية التي تطرحها المرحلة الانتقالية التي تلوح في الأفق. ما السبيل كي لا يتسبّب انهيار النظام بانهيار الدولة الضعيفة في الوقت نفسه؟ كيف سيجري التعامل مع جيش لم ينهض بأعباء مهمّته كجيش وطني؟ كيف سيتم الحفاظ على الأمن بوجود شرطة عاجزة وفاسدة؟ ما السبيل لضمان رفاه الطائفة العلوية، لأنه من دونها لا يمكن إعادة بناء سوريا بطريقة سليمة؟ وما الذي تحتاج إليه البلاد لإطلاق المعافاة الاقتصادية؟
حالياً، ليست هناك حاجة إلى استعجال وضع ترتيب لتقاسم السلطة. يجب التركيز على التفكير في كيفية إدارة المراحل الأولى للعملية الانتقالية، والنهوض بأعباء الحكم الأساسية، وإنعاش الاقتصاد. عبر طرح هذه الأسئلة والإجابة عنها – والتي لا تملك الحركة الاحتجاجية الوقت والمجال والطاقة والخبرة للتفكير فيها – يستطيع المثقّفون المعارضون استعادة وجودهم على الأرض، فيُطمئنون بذلك المتظاهرين الذين يمتعضون مما يعتبرونه تهافتاً من جانب هؤلاء المعارضين على القيادة، ويطمئنون أيضاً المواطنين الذين يدعمون حالياً النظام بسبب عدم ثقتهم بالبديل. إذا أرادت المعارضة أن تُقدِّم مساهمة أساسية، عليها أن تُكمِّل الحركة الاحتجاجية لا أن تستخدمها مطيّة لتحقيق مكاسب شخصية.
(“فورين بوليسي” ترجمة نسرين ناضر)
النهار