كي لا تسقط سوريا في الثأر المذهبي
عبير حيدر
«بدنا نبيد العلوية» شعار تم تداوله في التظاهرات الشعبية في سوريا أخيراً، لا سيما بعد حصول المجازر في القرى التي يقطنها سوريون معظمهم من الطائفة السنية. ويعكس هذا الشعار احتقاناً طائفياً شديداً، ارتفع منسوبه بشكل تدريجي مع الاستهداف الممنهج من النظام السوري للقرى ذات الأغلبية السنية. فمعظم القرى المستهدفة تقع في ريف حمص وحماه، ومحاطة بقرى يسكنها سوريون أغلبيتهم ينتمون للطائفة العلوية والمسيحية. ومع هذا لم يتوقف أهالي تلك القرى عن التظاهر، وثار أهلها بلا خوف، وكان لهم دورٌ مباشرٌ في الحراك الشعبي وتصعيد الثورة. أهالي تلك القرى التي كانت في مجملها مجهولة لبقية السوريين، تعرضوا لأبشع حملة دموية وهمجية من قبل النظام، لم يسلم منها أحد لا أطفال ولا شيوخ ولا نساء ولا رجال. فنزفت أسماء الحولة والقبير والتريمسة وكرم الزيتون وغيرها الكثير، في قلوب السوريين جميعاً.
لم يكن مستبعداً بعد هذه المجازر، أن تتعالى شعارات تعكس شحناً طائفياً كبيراً، تعتبر كل السوريين الذين ينتمون للطائفة العلوية، مسؤولين عن مجمل ما يقوم به النظام من قتل وتدمير واعتقالات وتهجير، لكون الرئيس السوري ينتمي إلى هذه الطائفة. كما تعالت أصوات كثيرة، لا سيما على صفحات التواصل الاجتماعي تتحدث: «لا تطالبونا بألا نكون طائفيين، ولا تطالبونا بأن نكون عقلانيين». من المؤكد أنه لا يوجد أحد، لا يتفهم كل مشاعر الألم والغضب والحزن في لحظات الفاجعة، لأنها أصابتنا جميعاً.
لكن، هل استمرار هذه الشعارات وتبنيها من قبل بعض المتظاهرين أثناء التظاهرات، يعكسان انحرافاً خطيراً في مسار الثورة؟ وهل يعني هذا حقاً، أن الثورة انتقلت إلى مرحلة الحرب الأهلية، كما يردد الكثيرون، وأن هذا التحول سيقود إلى اقتتال داخلي بين السوريين؟
كلنا يعرف أن الثورة منذ انطلاقتها رفعت شعارات تعبر عن الوحدة الوطنية، فشعارات (واحد، واحد، واحد…الشعب السوري واحد)، وشعار (لا سنية ولا علوية .. نحنا كلنا سورية)، وأيضاً (سنية وعلوية نحنا بدنا حرية) و(لا سلفية ولا إخوان، الشعب يريد الحرية)… جميع هذه الشعارات تعبر عن تجاوز الثائرين كل انتماءاتهم القبلية والعشائرية والدينية والطائفية، وتعكس وحدة الشعب السوري ككل، وأن الثورة ليست ذات دوافع دينية أو طائفية، وإن اندلعت في الأماكن ذات الأغلبية السنية. فالحلم بدولة مدنية ديموقراطية لكل أبنائها، هو محرك الثورة الأساس. لكن مع استمرار القمع والعنف من قبل النظام، واستهدافه الدموي للقرى التي يقطنها سوريون أغلبيتهم من الطائفة السنية، وارتكابه بحقهم مجازر يندى لها جبين الإنسانية… تلك المجازر التي أصبحت نقطة ارتكاز رئيسية في سياسة النظام في قمع شعبه لإرهابه من جهة، وتأجيج الحقد الطائفي من جهة أخرى، حيث ينفذ جرائم ممنهجة ومنظمة تجاه سوريين في قرى محددة في انتماءاتها الدينية وموقعها الجغرافي، لجر البلد لحرب أهلية، يسعى النظام بكل أدواته الإعلامية والسياسية والعسكرية إلى تأجيجها، بقصد حرف الثورة عن مسارها الأصيل، وجرها لاقتتال داخلي، لا سيما ان الثورة ولدت مشاعر وطنية جديدة، رغم صعوبة نضجها في ظل حكم استبدادي استمر لعقود طويلة. فقد توحد السوريون جميعاً على اختلاف طيفهم، وأبدوا تعاطفاً لا مثيل له على الأرض، في وجه طغيان ودموية النظام.
ليس من السهل، مطالبة الناس الذين قُتل أطفالهم وشوهت جثثهم واغتصبت نساؤهم وهدمت بيوتهم وهجروا، بأن يتحلوا بالعقلانية أمام جثث الأطفال المشوهة والأعناق المذبوحة. وكان مفهوماً، أمام كل هذا الألم، ظهور بعض الشعارت ذات الصفة الطائفية، خاصة أن كثيراً من المتظاهرين – المنتمين للطائفة العلوية – كانت الشعارات تُردد أمامهم. وقد أبدوا تفهماً كبيراً لها، ورباطة جأش أمامها، مؤثرين مشاعرهم الوطنية على مخاوفهم، ومحاولين تجاوز تلك اللحظات بروح الدعابة.
ومع هذا، وأمام استمرار المجازر وتكرارها والسكوت عنـها، هناك مخــاوف من تحــول هذا الغضب والحزن والألم لحــقد طائفـي دفــين، يــؤدي إلى الانتــقام من سوريين أبرياء وتحميلهم مسؤولية الجرائم.
فمن المعروف أن عدم وجود مشاركة فعالة للأقليات في الثورة، يعود لأسباب كثيرة. غالباً ما تكون مرتبطة بطبيعة الطائفة وردات فعلها تاريخياً تجاه الأزمات. حيث تصطف وتتحد خلف ترابطاتها العشائرية والدينية التي سرعان ما تنبعث من جديد، أمام أي شعور يتهدد وجودها كطائفة، وخاصة أن النظام لعب دوراً كبيراً في تجييش الأقليات في سوريا منذ بداية الثورة، بحجة أنه حامي الأقليات، ونجح في إيهامهم، إلى هذه اللحظة، بأن رحيله يعني الانتقام منهم وتصفيتهم. وعلينا ألا ننكر أن بعض الحوادث ذات الصبغة الطائفية، من خطف وقتل كالتي حصلت في حمص، وتحصل في مناطق أخرى، قد عززت من مخاوف هذه الأقليات وجعلت من لعبة النظام وسياساته تجاههم حجة للصمت، مع العلم بأن الطائفة العلوية تحديداً، عانت تاريخياً التهميش والقمع، على مدى أربعين عاماً على يد النظام ذاته.
فالسوريون من أبناء هذه الطائفة، في غالبيتهم يعارضون تصرفات النظام. وفي كثيرٍ من القرى والأحياء العلوية في حمص وجوارها، شهدنا فيها رفض العلويين قوات أمن النظام، وطردهم من مناطقهم، لأن وجودهم بحسب ما يرى هؤلاء هو ما يلحق التهم بالطائفة ويسبب الانتقام من قبل الطوائف الأخرى. كما لا يمكن تجاهل البيان الذي صدر بعد ستة شهور من الثورة، عن ثلاثة من كبار مشايخ الطائفة العلوية في مدينة حمص، أعلنوا فيه براءتهم من «الأعمال الوحشية» التي يقوم بها النظام بحق المحتجين، مؤكدين ان النظام لا يمثلهم ولا يمثل طائفتهم. وهؤلاء المشايخ هم: مهيب نيصافي، ياسين حسين، موسى منصور. وقد جاء في البيان: «نعلن براءتنا من هذه الأعمال الوحشية التي يقوم بها بشار الأسد وأعوانه من الذين ينتمون إلى كل الطوائف، ونتحمل مسؤولية ما نقول».
فالثورة لا يقوم بها ولا يقودها ملائكة، ولا هي فعلٌ رومانسي بريء. هناك ضحايا وأبرياء سقطوا وسيسقطون، وهذا حال كل الثورات في العالم. وبعض السلبيات التي ظهرت في سياق الثورة، لا يُسقط عنها أنها ثورة ذات بعد وطني، وأن كل ألوان الطيف السوري جزءٌ منها، رغم قلة المشاركة من بعض الأقليات. فالمشاركة العلوية وخاصة في الأماكن التي تشهد تداخلاً طائفياً كبيراً، كما في جبلة وبانياس وطرطوس، فعالة وأساسية وتضم كثيراً من الناشطات والناشطين، الذين لعبوا دوراً أساسياً في الثورة منذ انطلاقتها. ومدينة السلمية ذات الأغلبية الاسماعيلية كانت ثالث مدينة تنتفض في الثورة بعد درعا وحمص. كما أن هناك المئات من شباب السويداء الدروز، المنخرطين في الثورة ولهم دور أساسي في تأمين الأدوية ومساعدة الجرحى والمشاركة بالتظاهرات. ومثلهم الكثير من شباب وشابات مسيحيين، اعتقلوا وعذبوا واستشهدوا لمشاركتهم في الثورة، حتى أن بعضهم يلقى اضطهاداً مضاعفاً من قبل قيادة الكنيسة الرافضة نشاطهم.
إن محاكمة سوريين انطلاقاً من انتمائهم لطائفة معينة، سيكون مبرراً لمنح صك البراءة لعناصر من مكونات النظام، شاركت في الجرائم تنتمي إلى طوائف أخرى. ولا يجب أن ننسى دروس التاريخ، فالذين ارتكبوا مجزرة حماه عام 1982، من ضباط وجنود كانوا ينتمون إلى الطائفة السنية نفسها.
لن تكون هناك مداوة للجرح السوري إلا بمحاكمات علنية للمجرمين، حتى يشعر السوريون جميعاً بأنهم بأمان، وإلا فسنكون بمن يخفي الجرح ويجمله، تحت عناوين لا تثير إلا الحقد والانتقام، وتؤسس لانتقامات لاحقة ستضيع فيها دماء كثير من السوريين الأبرياء. فبعد مرور سنة ونصف السنة على الثورة، أثبت فيها السوريون قدرتهم على تجاوز الفزاعة الطائفية. حري بنا أن نحافظ على هذه الثورة، ونكون على مستوى تضحيات شعبنا، ونعلن بجرأة، عن أخطائنا. الجرح كبير لكنه جرح سوري وليس جرح طائفة بعينها، فمصيرنا جميعا واحد. وكلنا جزء أصيل من النسيج السوري، وهذه حقيقة. لا يمكن تجاهلها حتى في أشد لحظات الألم والحزن والغضب.
كاتبة سورية