صفحات الرأيعمر قدور

لأنهم يروننا بوصفنا بهائم/عمر قدور

 

 

في الوقت الذي نقلتْ فيه وكالات الأنباء أخبارَ مظاهراتٍ للنساء في إيران، احتجاجًا على استهدافهنّ بمادّة الأسيد الحارقة، كانت وسائلُ الاتصال الاجتماعي مع صدمةِ نشر يوتيوب منسوبٍ لداعش، حيث يقوم عناصر التنظيم الإرهابي المتطرّف بالإشراف على رجمِ امرأة بتهمة الزنى. استهدافُ النساء الإيرانيات بالأسيد، من قبل ما يُعتقد أنهم مجموعات من حزب الله الإيراني المتطرّف وقوات الباسيج، واستهدافهنّ من قبل داعش لا يختلفُ من حيث المدلولات ولا من حيث النتائج، فاستخدام الأسيد في إيران، عقوبةٌ لما هو أقلّ بكثيرٍ من “الزنى”، لأن ضحاياه من النساء، متّهماتٍ بأنهن لا يرتدينَ كما ينبغي الحجاب المفروض عليهنّ، بالطبع الضحايا لم يكنّ سافرات.

بالتأكيد ليس مستغربًا أو مستبعدًا أيضًا أن يسلكَ المتطرّفون من كلّ جانب السلوكَ العدواني نفسه، غير أنّ العقليّة التي تقف خلفَ سلوكهما لا تقتصر عليهما، بل تكادُ تكون عقلًا جمعيًا وإن تراوحَ بين العنف و”التسامح”. إذ لا يخفى أن التسامح هنا مبنيٌّ على اعتبارِ الآخر مذنبًا. ولا يخفى أن التسامحَ في العقوبة لا يلغي الإدانة. بيتُ القصيد، في العقل العامّ المشترك، أن المرأة لا تملك جسدها. فجسدُ الأنثى هو جسدٌ اجتماعي في الدرجة الأولى، ومن السهلِ أن يجري تحويله إلى جسدٍ يُستثمر لأغراض سياسيةٍ ما دام في الأصلِ جسدًا عامًا بالمعنى السابق.

على الضدّ من آليّة الحجاب، التي تفترض تخصيصًا إلى الحدود القصوى لجسدِ المرأة، فإن الِنظرة الحقيقيّة وراء قسرِ المرأة عليه، تكمن في أنها ليست حرّة إطلاقًا في ما يتعلّق بشؤون جسدها، وأنّ المجتمع أو “الكتلة المهيمنة عليه” من حقّها التدخل حتّى على مستوى سنتيمترات قليلة يجري كشفها أو حجبها؛ ذلك قبل أن نصلَ إلى الحديث عن حقّها في التصرّف بجسدها إجمالًا. ومن الحجج الشائعة لدى “الغيورين” على جسدِ المرأة أنّها إذا تُركت لحريتها الشخصيّة، فهي ستمتهن جسدها وترخّصه على النحو الشائع في الغرب. فهناك حيثُ لا حجاب ولا قوى اجتماعية أو سياسية، تفرضُ على المرأة نمطًا محدّدًا من التصرّفات يُظهر الجسد كما تريدُ له صاحباته في الفضاء العامّ. لكن هذه الحجّة سرعان ما ستنقلبُ على أصحابها في الجوهر. ففي الغرب “حيث يقتحم الجسد الأنثوي الفضاء العامّ” تملك المرأة حريةَ حجب الجسد أو إظهاره، أي أن العقل المؤسِّس لحريّة المرأة، يفترض خصوصيةَ جسدها الحقّة، وجسدها ليسَ عامًّا أو مستباحًا بما أنها تمتلك الحقّ الحصري له، وتمتلك وحدها حريّة التصرّف به.

على الصعيد ذاته، يحاجج المتزمتون بأن وجود جسد الأنثى في الفضاء العامّ يجرّده من أنوثته، بمعنى أنه يقللّ من الشحنة الإيروتيكية التي يتسبّب بها تمنّع الجسد عن الظهور. وفي ما عدا أن هذا يختزلُ الأنثى إلى مادةٍ غريزيةٍ فحسب، تبدو الحجّة الأخيرة كأنها تفترضُ الذكور والإناث على أهُبة الاستعداد للجنس في كل لحظة. وتختزل الذكر بدوره إلى غريزةٍ لا مكان فيها للتمييز أو للمشاعر. أي أنها بخلافِ النظرة الأخلاقية التي تحكمها، تفترض عدم توفر الحدّ الأدنى الحضاري والأخلاقي في الآخرين، إنها بالأحرى نِظرة تنحطّ بعموم الناس إلى ما دون البشر، ويستخدم أصحابها تعبير “البهيمية” مفترضين أن الحيوانات كلّها على الإطلاق غير منتظمة غريزيًا.

من جهة أخرى، يحاجج البعض أن الإنسان لا يمتلك شيئًا من أمرِ جسده، لأنّ الجسد هو وديعة من الله وهو مؤتمنٌ عليها فحسب. المشكلة في هؤلاء أنهم يضعون أنفسهم رقباء وأوصياء على الوديعة الإلهية. فإذا كان صاحب الجسد مجرّد حامل للأمانة، لن يستوي المنطق الذي يزعم لآخرين، من أفراد ومجموعات، احتكار الوصاية على جسدٍ ليس لهم. المسألة هنا بمثابة اعتداءٍ على المشيئة الإلهية ذاتها. المشيئة التي فوّضت صاحب الجسد وائتمنته عليه، وإذا كان من عقوبةٍ ناجمةٍ عن سوء التصرّف بالأمانة، فهي عقوبة إلهية لانعدام وجود “إكليروس” في الإسلام، واقتصار دوره في المسيحية على الوعظ والإرشاد في العصر الحديث. ثمّ، إن أيّ ادعاء بتمثيل الحقّ الإلهي على الأرض من قبل إحدى الجماعات، يقابله ادعاءٌ آخر مغاير من قبل جماعةٍ أخرى تملك تفسيرًا مختلفًا. وإذا قلنا أن الحقّ الإلهي مقدّس، فذلك يقتضي نسف المزاعم التي تبيح الاختلاف في تفسيره، أو يقتضي أن يُفتح باب التأويلات على آخره. لكن الأقرب إلى المنطق أن يُحجب حقّ تمثيله بالمطلق ما دام من يدّعون تمثيله، لا يملكون العصمة التي تؤهلهم من ملامسةِ ما هو مقدّس.

في الواقع، ما يفعله متعصبو حزب الله الإيراني ومتعصبو داعش، هو فعلُ اغتصابٍ علنيّ على عدّة مستويات؛ فهو اغتصاب لحقّ المرأة وحريتها وفق المفاهيم المعاصرة، وهو أيضاً اغتصاب لحقّ المؤمنات من النساء، أي الحقّ الممنوح لهنّ بأن يكنّ “خطّاءات توّابات”، وهو اغتصابٌ لحقّ المؤمنين الآخرين في التفسير والتأويل، عبر احتكار هذا الحقّ. وبالطبع هو اغتصابٌ مباشر لجسدِ المرأة لأنه يستبيحه تماماً. وإذا كان متعصبو داعش يحرمونه من حقّه في الحياة، فإن نظراءهم في إيران يشوهون الجسد الذي يُفترض أنه خُلق في أحسن تقويم.

العربي الجديد

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى