لا أبدية لحكم أقلية أو تحالف أقليات!
سركيس نعوم
غالباً ما تُتهم الأقليات الدينية أو المذهبية أو الإتنية في العالم المتخلّف بالسعي الى تقسيم الدول التي تعيش فيها، وذلك بغية “استقلالها” بدولة وإن محمية من الخارج تستطيع ان تمارس فيها ذاتياتها المتنوعة بعيداً من اضطهاد الأكثريات. وغالباً ما يكون هذا الاتهام في محله. لكن الواقع يؤكد، فضلاً عن المتابعة الدقيقة لأوضاع الدول والمجتمعات “المتخلفة” التي تتكوّن شعوبها من أكثريات وأقليات، ان مسؤولية الاكثرية في اي بلد عن جنوح بعض “شعوبها” نحو التقسيم لا تقل عن مسؤولية الأقلية، وهي كبيرة اساساً.
فالظلم والقمع والاضطهاد وعدم احترام حقوق الإنسان ولا حقوق المواطنة سواء باسم الدين أو المذهب أو العرق لا يقبله اي مواطن في اي دولة اياً صَغُر حجم “شعبه”. إلا ان الكلام عن “المسؤولية” عن السعي الى التقسيم لا يعود صالحاً كثيراً عندما تخدم الظروف المتنوعة الأقليات، فتصل الى الحكم في دولها المتخلفة. إذ بدلاً من ان تستغل حكمها لبلدانها من اجل إقامة دولة عادلة تساوي بين مواطنيها اقلوية كانت انتماءاتهم أو أكثرية، فإنها تقيم نظاماً أقلوياً وإن بغطاء أكثري تضطهد بواسطته الأكثرية. وفي حال كهذه “يعيد التاريخ نفسه” بين الاقليات والأكثريات. وبذلك تكون الاقلية هي المسؤولة عمّا سيصيبها من جديد عندما تتخلى عن السلطة مكرهة. وغالباً في احوال كهذه ما تقع الاقليات في المأساة اي في التهميش اولاً بعد الظلم طبعاً، ولاحقاً ربما في الاندثار جراء العجز عن التغيير وإيثار الهجرة الى مجتمعات “تتجانس” معها وتقبلها إما لأنها ديموقراطية وإما لأنها تماثلها في الانتماءات العرقية والدينية والمذهبية.
في اختصار تقع الأقليات في الوهم المطلق إذا ظنَّت يوماً أو إذا سيطر عليها اقتناع بأنها قادرة على حكم الاكثريات الى الابد بالحديد والنار وأجهزة الأمن والجيوش، ومع ذلك بالاغراءات المالية كما باغراءات المناصب التي غالباً ما يكون شاغلوها الرسميون غير فاعلين. إذ يكون الفاعلون آخرين يعملون مع هؤلاء او في ظلهم لكنهم ينتمون الى الاقلية الحاكمة. فتجارب التاريخ اثبتت مرات ومرات ان الأكثريات الطاغية تزول بسيطرة أكثريات اخرى طاغية بدورها ولكن بواسطة الغزو والاحتلال مثلاً. في حين ان زوالها المفيد يجب ان يكون باعتماد الديموقراطية بكل مضامينها. إلا أن التجارب نفسها اثبتت وبما لا يقبل الشك ان الاقليات الطاغية تذهب دائماً، ومهما طال حكمها او ظلمها الى الذبح. طبعاً تقع مسؤولية الحكم الاقلوي وطغيانه احياناً كثيرة على القادة الذين لا يعاملون ابناء اقليتهم بأحسن مما يعاملون ابناء الأكثرية. لكن الظلم يجعل الأكثرية لا تفرّق في المسؤوليات، وخصوصاً عندما ترى التماهي بين زعماء الأقليات وابنائها وربما المكاسب او فتاتها التي يتركونها لهم كي يستمروا في حمايتهم. ويثير ذلك غريزة البقاء بواسطة التضامن داخل الاقلية.
وفي اختصار ايضاً تقع الأقليات في الوهم ايضاً إذا ظنت في بلد مؤلف من “شعوب” مختلفة الاحجام وإن على شيء من التوازن ان تحالف شعبين ضد ثالث، وخصوصاً إذا كان ينتمي الى الأكثرية الساحقة في منطقته (لبنان والعالم العربي والعالم الإسلامي مثلاً) يستطيع ان ينشئ نظاماً دائماً وإن امتلك كل وسائل القوة. وإذا كان دافعهما الى التحالف الخوف من طغيان عتيق “للشعب” الثالث، فإن هذا الاخير سينتظر تغييراً ما في الداخل او في الخارج الذي يتشارك واياه اكثرية ما وذلك بغية استعادة السلطة والموقع. وفي حال كهذه وفي عالم متخلف كالذي نعيش فيه يستمر الحكم القمعي، ولا تتغير سوى “هوية” الحاكم. والأفضل من تحالف الاقليات هو مبادرة اعضائه الى إرساء اسس نظام عادل لكل “شعوب” البلد الذي تنتمي اليه.
في النهاية وكي لا نبقى في التنظير، ظن “شعبان” لبنانيان على الاقل في اثناء حروب 1975 – 1990 انهما حصلا على حكم ذاتي وربما اكثر. وفي ليلة لا ضوء قمر فيها تبخّر كل شيء. وفي سوريا اليوم يظن البعض ان النظام قد يخسر جزئياً إذ انه قادر على الانكفاء الى “جغرافيته” بعد توسيعها حيث تقوم دولته او حكمه الذاتي. وظنونه يعززها التقسيم الواقعي في العراق، واحتمالات تقسيم اليمن وتقسيم السودان وربما تقسيم ليبيا. لكن هذا البعض ينسى، وبغض النظر عن تأثير الداخل السوري على هذا الامر، ان العالم العربي بغالبيته والمجتمع الدولي بغالبيته لن يترك “جغرافية” سورية معينة تمارس ايران سيطرتها عليها او روسيا، إلا اذا طرأت تغيرات جوهرية على علاقات هذه الجهات كلها. فهل يعي السوريون بفريقَيهم المتصارعين مصالحهم الحقيقية؟
النهار