لا أرى بحر زكريا/ زينة حموي
عندما سأله أحد الأولاد في ساحة المدينة الرياضية إن كانوا هم أيضاً نازحين من حلب، أجاب فارس بضيقٍ وحزم:
“لا، نحن هنا كي نرى البحر” .
عامان وفارس يحاول إقناع أبويه بزيارة اللاذقية. عمره ثلاثة عشر عاماً ولا يعرفُ البحر بعد! يراه في بعض الكتب المدرسية، وفي مسلسل “ضيعة ضايعة” فقط. عامان، والأدقّ صيفان، وهو يكرّرُ اقتراحاتِه وحساباتِه مطلعَ كل أسبوع: أجرة التكسي من بيتهم في جمعية الزهراء إلى محطة بغداد حيث ينطلق القطار، ثمن أربع تذاكر له ولأبويه ولأخته، ثم أجرة ميكرو ينقلهم من أمام المحطة في اللاذقية إلى البحر، ومثل هذه التكلفة للعودة مساءً بالطريقة نفسها. هذا كلُّ ما في الأمر حسب تأكيدات زكريا ابن الجيران الذي اعتاد وعائلته الذهاب إلى البحر مطلعَ كلّ شهر صيفي على مدار أعوام. لا يفهم لماذا يصرُّ أهله على الرفض!
تصمتُ أمّه كلّما عرض شكواه وطلبه. وعندما يلحُّ عليها، تحيله إلى أبيه الذي يتعلّل كلّ مرة بحجةٍ ما: يتذرّع أولاً بالعمل وبأنه لا يستطيع التغيّب عنه؛ فأعمالُ البناء تنشطُ في الصيف والمهندس يعتمد عليه في الإشراف على العمال وتدقيق حسابات المشروع حتى في أيام الجُمَع، لن يخذله.
مرّات يؤجل أبو فارس المشوار لأسباب مادية، قائلاً إن خطة فارس المالية لم تحسبْ إلا حساب الطريق وتجاهلتْ الأكلَ والشرب وعدّة الأرجيلة والشواء والتسالي والفواكه. فالبحر والسباحة يفتحان النفس والشهية وحالتهم الآن لن تسمح بمشوار كهذا. وأحياناً يسوّف أبو فارس ويهمسُ بكلمات عن تعبه وانشغاله والوقت غير المناسب. وأحياناً قليلة، في حالات اشتداد النقّ، يزجر الأب ابنه وينهاه عن ذكر الموضوع وفتح السيرة مرة أخرى. فيحوم في البيت زعلٌ خفيف وينقبضُ صدرُ فارس بغصة. إلى أن كانت تلك الليلة.
أوائل الصيف الماضي، كان القصفُ قريباً ومتواصلاً ومختلطاً بأصوات أخرى جديدة لم يألفوها، أو يعرفوا لها اسماً أو مفعولاً بعد. أيقظتْهُ والدته بخشونة واضطراب، طلبتْ منه ومن أخته أن يستعدا للمغادرة سريعاً، وعندما استفسرا أجابتْ باقتضاب:
“إلى البحر”.
سألها فارس: بالقطار؟
ردّتْ بضيقٍ أوضح: لا، القطار واقف، واقف من زمان.
استغربَ فارس صوتَ أمِّه وهيئتَها، لا شيء فيهما يدلُّ على الرضا أو السرور. حركاتها سريعة ومتوترة، نوعية الأغراض القليلة المحزومة تُخفي نيّاتٍ مريبة لوالديه، ولا تشي بأنهم في طريقهم إلى إجازة على البحر. بلع تساؤلاته وشكوكه، فالمهم أنه أخيراً سيرى البحر. استعجلَ أختَه وقادَها إلى سيارة الأجرة الواقفة عند الباب، سَمِعَ توجيهاتِ جارِهم أبي زكريا لأبيه بأن يتبعوا الباص الأزرق وأن ينتبهوا عند خناصر! لم يفهم فارس، ولم يهتم. المهم أنه سيرى البحر.
يبدو أنهم وصلوا، فوّتَ فارس على نفسه رؤية مدخل المدينة والبحث عن اتجاه البحر. لم يستطع مقاومة النعاس ولم يشعر إلا وأمه توقظه بقلقٍ وعنفٍ أقلّ هذه المرة. دخلوا إلى مكان كبير، كأنه ملعب، أو ملاعب، أبنية وأدراج وفسحات وأبواب ودهاليز كثيرة. استقبلهم شابٌ طويل وقادَهم إلى صالة جانبية تضجُّ بالأولاد والأصوات والنساء والبكاء وبعض الرجال. أشار إلى ركنٍ خاوٍ نسبياً طالباً إليهم أن يتدبّروا شأنهم هنا ريثما تتضح الأمور. وعندما سأله أحد الأولاد في ساحة المدينة الرياضية إن كانوا هم أيضاً نازحين من حلب، أجاب فارس بضيق وحزم:
لا، نحن هنا كي نرى البحر.
مضى عامٌ كاملٌ وفارس يرى البحرَ كلَّ يوم. لكنه لم يكن يشبه بحر الكتب ولا بحر “ضيعة ضايعة” ولا حتى البحر الذي حدثه عنه زكريا ابن الجيران. لم يسبحْ ولم يَلْهُ بالرمل، ولم يسلِّمْ جسده النحيل لصبغة الشمس السمراء. لم يقيموا حفلة شواء ولم يستمتعوا بالأكل والشرب والأرجيلة وهم يَستمْهِلون الوقت ويتمنّون للنهار أن يطول. هذا البحر ضيّقٌ وشاحبٌ وغريب. لا يصلح إلا للتذكير بالفقدان والبُعد والخسارة. عامٌ كامل وفارس يواجهُ بحراً آخرَ غير ذاك الذي حلم به.
عامٌ كاملٌ وهم يقتاتون على الهمّ فيأكلهم التعب. قضَوا الثلثَ الأول من العام في المدينة الرياضية مع مئات النازحين، ثم تمكّنوا من استئجار غرفةً صغيرة في سوق الصفن ودبَّر أبو فارس عملاً يُلبّي لهم بصعوبة الحدّ الأدنى للعيش لدى محمصة في شارع القوتلي.
عامٌ كاملٌ تحوّل فيه فارس من تلميذ إلى “صبي طلبات” يأخذ البيتزا ويعودُ بالبقشيش. عامٌ واحدٌ كَبُرَ فيه الولد كثيراً، خطوطُ الشّارب مسحتْ ملامحهُ الطفولية بسرعةٍ وقسوة، ونبتتْ في قلبه وعقله همومٌ ومسؤولياتٌ عديدة. نضج فارس إلى الدرجة التي جعلتْهُ يرمي حلمَ البحر في سلة الطفولة ويُغرِقها في أعماقِ الماضي ثم يستبدلُ كلَّ أحلامه بأمنيةٍ واحدة: العودة!
عامٌ كامل وهو يحاول إقناع والديه بالعودة إلى حلب، يكرّرُ اقتراحاته وحساباته مطلع كلّ فجر: أجرة التكسي من غرفتهم المستأجرة إلى محطة الباصات، ثمن تذكرتين لأبويه فقط وسيقبل أن يقضي الطريق هو وأخته وقوفاً، ثم أجرة ميكرو يعيدهم إلى بيتهم في جمعية الزهراء. هذا كلُّ ما في الأمر. لا يفهم لماذا يتشدّد أهله في الرَّفض!
تبكي أمه كلّما عرض شكواه وطلبه، يتعلّل أبوه كلّ مرة بحجةٍ ما: يتذرّع أولاً بالعمل وبالسلفة التي أخذها من صاحب المحمصة فهي لم تُسدّد بعد، لن يسرقه. ومرّات يُؤجّلُ أبو فارس لأسباب أمنية، فخطّة فارس الطرقيّة لم تحسب إلا حساب وسيلة النقل وأسقطتْ خطورةَ الحواجز والاشتباكات والخطف والاختفاء والموت المحتمل. وأحياناً يرتبكُ الأبُ ويبرطم بكلمات عن الوقت غير المناسب، والأخبار التي تصلهم عن بيتهم المدمّر وحيّهم المنكوب.
وأحياناً كثيرة، في حالات اشتداد النقّ، يزجر الأب ابنه وينهاه عن ذكر الموضوع وفتح السيرة مرة أخرى. فيُطبق على البيت حزنٌ ثقيل وينقبضُ صدرُ فارس وأبيه وأمه وأخته بألف غصَّة وغصّة.
* كاتبة قصّة من سورية
العربي الجديد