لا تكن حصان طروادة
ميشيل كيلو
وجه راهب لا أعرفه هذه الملاحظة إليّ في الأسبوع الماضي، ردا على ما يشبه رسالة كتبتها إلى غبطة البطريرك سيدنا بشاره الراعي أناقش فيها تصريحات سياسية صدرت عنه. وأضاف رجل الدين الموقر نصيحة ثانية بصيغة آمرة: ولا تكن كعـب أخيل. على هذا الكلام، الذي كـنت أود أن لا يــصدر عن رجل دين، أود أن أرد اليوم، انطلاقا من حقيقة مهمة لا تحظى بما تستــحقه من اهتمام هي الاختلاف الجوهري بين وضع الموارنة في لبنان والمسيحيين في سوريا. في المقالة السابقة، رأيت الأمور من منظور السياسة، وأريد أن أراها اليوم بمنظار التاريخ (1).
من محاسن التغيير الذي يحدث اليوم في الوطن العربي واقعة أنه يعيد طرح المشكلات التي ربما نكون قد تجاوزناها بسرعة في الماضي دون أن نفكر فيها بعمق، أو أننا أحجمنا عن التوقف عندها، فلم نقم بتفكيكها ومناقشتها وتمثلها فكريا ومعرفيا بما يكفي. يعود ذلك إلى مسألتين مهمتين:
÷ أولاهما أننا عشنا تناقضات وصراعات كثيرة وتفتيتية خلال فترة الحكم العثماني اتصلت أيضا بالأقليات ووجودها وعلاقاتها المحلية والدولية وما نالته من استقلال ذاتي خاص في أحيان ومناطق كثيرة، فبدا لنا أن من الأفضل لنا، وقد تخطينا تلك الحقبة، أن نتخطى أيضا مشكلاتها وندير ظـهورنا لها ونتجه إلى مسار تدامج وتشابك مجتمعي / سياسي متزايد، يقربنا بعضنا من بعض، على أسس وطنية، ما بعد طائفية / ما بعد أقلوية، شرعت تتخلق قبل السقوط تحت الاستعمار الغربي، وتعززت كثيرا خلال حقبة النضال من أجل الاستقلال الوطني، الذي اعتمدنا في طلبه والقتال من أجله على وحدتنا الداخلية، التي ارتكزت على أفكار جامعة من تراث الثورة الفرنسية الإنساني والتحرري، تبنيناها خلال حقبة النهضة التي عرفتها نهاية القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، ومن عملية الإحياء اللغوي/ الأدبي، الديني / التاريخي التي حدثت آنذاك، وخدمت خط الاندماج والتشابك المجتمعي /الوطني، السياسي / الثقافي، حتى ساد اعتقاد متعاظم بأن المسائل والمشكلات الخاصة بالأقليات لم تعد مهمة، أو أنها تفقد أهميتها وراهنيتها وتذهب نحو وضع تصير معه من ماض لا نريد تذكره أو الحديث عنه، حفل بمظالم كثيرة وقام على فرقتنا وضعفنا.
÷ وثانيتهما أننا اعتمدنا منذ مطالع الخمسينيات سياسات تركزت أساسا على السلطة باعتبارها رافعة التغيير والتقدم، وأن منظومة القيم التي عملت هذه في إطارها ووعدت بتحقيقها في الواقع، قامت على أسس نظرية تتجاوز أي مكون من مكونات المجتمع، قيل إنها تتخطى مسائل عصر النهضة من خلال تحقيق مفرداتها المتنوعة: من الحرية الشخصية إلى القانونية، ومن استكمال الهوية الوطنية الموحدة على صعيد الدول المختلفة إلى تحقيق هوية قومية موحدة على صعيد دولة جديدة لأمة العرب المندمجة. هذه الأسس كان يقال إنها ستدخل العرب إلى مجال ما بعد نهضوي، نقطته المركزية إزالة ومحو الفوارق بين الطبقات وتكوينات المجتمع المختلفة، التي لم يعد من الجائز والمناسب تعريفها بمذاهبها وأديانها وخصوصياتها، لكونها تفريقية، ويجب أن تتعين بمصالــحها ووعيها الموحدين، اللذين يجبان أية خصـوصية يمكن أن يتعين أي شخص أو تجمع بواسطتها أو من خلالها.
باختصار: لقد تم القفز من فوق مسائل مهمة كمسائل الأقليات، نجد أنفسنا اليوم في مواجهتها وقد امتلأت بمحمولات خطيرة، ليس فقط لأن الحديث عنها أو التعامل السياسي الفاعل معها كان محظورا ومحرما، بل كذلك لأنها استخدمت في أكثر من مكان كحوامل للسلطة، واكتسبت مثلها طابعا متعاليا أخرجها من مجال التداول المعرفي الحر والعام، وأثبتت أنها كانت قادرة على تجاوز الزمن، وتستطيع أن تكون خطيرة في جميع الاتجاهات.
أصل من هذه المقدمة إلى المسألة التي أريد الحديث عنها وتتصل بالفارق بين المسيحية المارونية وشقيقتها السورية. قال إلياس مرقص في كتاب نقدي حول برنامج كان الحزب الشيوعي اللبناني قد أصدره في أواخر الستينيات، وأدان الطائفية السياسية المارونية: إن موارنة لبنان ليسوا مجرد طائفة وحسب، بل هم تشكيل سياسي يتجاوز الطائفة، كثيرا ما مارس مهام تتخطى أي تكوين مذهبي جزئي، وامتلك علاقات دولية، وبرز بخبراته الإدارية والاقتصادية وبقدرته على التكيف مع وقائع السياسة الدولية وانعكاسها على لبنان والمشرق، مع أنه امتلك دوما سوية معرفية وثقافية لافتة، فهو ليس إذن مجرد تكوين طائفي كغيره من طوائف لبنان والمشرق، ولديه من الاستمرارية ما يؤهله لأن يتولى وظائف تتخطى قدرات أية طائفة، بمعنى الكلمة المألوف.
كان إلياس يتناول الطائفة في الماضي. أما في الحاضر، الذي أثبت أن وضعها قريب جدا مما قاله عنها، فقد تصرفت دوما باعتبارها كيانا مجتمعيا صلبا ومتماسكا، احتل موقعا مميزا منذ وقت طويل، حظي بتغطية دولية أقرت عبر مواثيق وترتيبات عاشت قرونا عديدة، جعلته يسيطر على منطقة جغرافية معينة وقوم محدد، ويتواجه أو يتصالح بهذا القدر أو ذاك، وبصور مباشرة أو غير مباشرة، مع القوى والمكونات الصاعدة في لبنان وجوارها القريب والمباشر، مما أدخله في تجاذب تاريخي مديد مع أطراف كثيرة، داخلية وخارجية، وأضفى عليه سمات تكاد تكون ثابتة، وفرض عليه طرائق سلــوك دولوية، ووضعه دوما في قلب الحدث اللبناني، إن للخير أو للشر، وحوله في النهاية من جهة تمسك بمتصرفية، إلى طرف يمسك بالمفاصل الرئيسة في دولة حديثة، لذلك كان من المحال أن لا يمر كل تطور عرفه لبنان به، سلبيا كان أم إيجابيا، وأن لا تكون لها مواقف مؤيدة أو معارضة من أي حدث، مهما كان هامشيا.
ليس حال المسيحيين السوريين مماثلا لهذا أو شبيها به بأي معيار. ولم يمتلك مسيحيو سوريا وكنائسهم وضعا يشبه ولو من بعيد وضع الكنيسة المارونية اللبنانية. في سوريا، كان المسيحيون في أنشطتهم العامة إما أعضاء في أحزاب الأغلبية، أو أنهم عملوا في حاضنة مجتمعية وسياسية جمعتهم معها، أو برزوا من خلال الدولة الوطنية وخدموا في صفوفها، لذلك شابه حالهم أحوال بقية مواطنيهم وغلب وعي المواطنة الجامع في وجودهم على الوعي الطائفي، الذي لم يعين مواقفهم خلال تاريخهم الحديث، بل كان ثانويا فلم يتصرفوا بما يمليه منطق الطوائف أو تتطلبه مقتضياتها. حدث هذا لسببين: أولهما أن أغلبية المسيحيين السوريين انتموا إلى فئة عرفت تاريخيا بدرجة اندماجها العالية في المجتمع هي فئة الروم الأرثوذكس، حتى شاع القول بأنها «سنة المسيحية»، وثانيهما أن المجتمع السوري لم يعبر تقليديا عن نفسه من خلال تشكيلات طائفية أو وعي طائفي، وأن الطائفية مستهجنة مذمومة فيه ومنه اليوم أيضا، ليس لأنها نقيض ما درج على الإيمان به من أفكار وأهداف جامعة وحسب، بل كذلك لأنها عكس الوطنية ونقيض العروبة في نظره، ولأن من شأن سيطرتها أو هيمنتها أن تجره إلى حيث لم يقبل إلى الآن أن يكون: مجتمعا ممزقا متصارعا ومتقاتلا وبالتالي مفككا وآيلا إلى الانهيار.
ليست الطائفة الوطن السياسي أو الخاص للمواطن السوري، مسيحيا كان أم مسلما، وليست حاضنة تحميه بل هي خطر يهدد أمنه ووجوده، وليس في وعي المسيحي السوري فتن طائفية أو مذهبية حمّله إياها تاريخه، وهو لا يعيش على الخوف من الآخر، رغم ما تبذل أطراف معينة من جهود منظمة في هذا الاتجاه، وهو يدرك بحدسه أنه ليس، ولا يجوز أن يكون، طرفا في أي نزاع أو صراع طائفي أو غير طائفي، لأن الصراع مسعى تمزيقي / تفتيتي، سيكون هو وغيره من مواطنيه ضحاياه. لذلك تبدو أية مواقف تتعارض مع هذا الوضع والوعي غريبة عنه، ومخيفة بالنسبة إليه، ومتعارضة مع تاريخه ورغباته الحقيقية، رغم ما سببه له صعود التطرف الإسلامي والسلطوي من قلق خلال السنوات الأربعين الماضية، وهناك في أيامنا من القصص والوقائع ما يؤكد عمق توطن الوعي الذي يتخطى أي مذهب في وجدانه وسلوكه. أليس هو من طرب لقولة الملك فيصل الأول: الدين لله والوطن للجميع، وقصد الجامع الأموي في دمشق كي يقاوم الانتداب الفرنسي مع بقية مواطنيه، حيث ألقى فارس الخوري خطبه العنيفة وسط تهليل المصلين المسلمين؟ ألم تفتح له أبواب مساجد بانياس في الخمسينيات للصلاة على موتاه، لأنه لم يكن لديه كنيسة هناك يصلي عليهم فيها؟ ثم ألم يستشهد المطران جبره، مطران اللاذقية حتى أواسط الستينيات بآيات من الذكر الحكيم في صلواته ومواعظه؟
هذه الحقائق هي التي دفعتني إلى الاعتراض على ما قاله سيدنا غبطة البطريرك الراعي. ليس من مصلحة المسيحية والمسيحيين نقل خصوصية لبنان إلى سوريا والتعامل مع مسيحييها بمعايير طائفية، لما سيسببه ذلك لهم من مشكلات هم في غنى عنها، خلال لحظة تاريخية حافلة بالمفاجآت والمخاطر، يبدو جليا أنها تأسيسية بكل معنى الكلمة، وأن ما بعدها لن يكون إطلاقا ما كان قبلها، وليس مسموحا لأحد أن يقترف أية أخطاء جوهرية فيها، وخاصة منها تلك التي لا يحتاج بالضرورة إلى اقترافها، انسياقا وراء أي رجل دين أو رجل دنيا، كائنا من كان هذا وذاك!
ينصحني رجل الدين، الذي عرفت أنه حضر اجتماع المعارضة مع الوفد الروسي الذي زار دمشق مؤخرا بوصفه خبيرا في حركات الإسلام السياسي، أن لا أكون حصان طروادة، وكعب أخيل (من الواضح لمن في الحالتين)، وأنصحه بدوري أن لا يخوض حروب طروادة، لأنه لن يكسبها، ولأن أحدا قبله لم ينجح في كسبها!
(1) أوردت في مقالتي السابقة مقاطع من كلمات ألقاها بعثيون ومستقلون خلال حوارات المحافظات. لكن خطأ ما وقع جعل هؤلاء وأولئك من الموالين، مع أن الأمر ليس كذلك في واقع الأمر. إنني أعتذر عن هذا الخطأ غير المقصود لكل من وضعته في غير موقعه الصحيح.
السفير