لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة.. هرم الخوف/ سحر مندور
الحياة ينقصها الموت، بطريقةٍ أو بأخرى. وهي رواية يحدّها من طرفيها موتٌ محدّدٌ هو موت «الرئيس الخالد». عنوانها: «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، والمدينة المذكورة هي حلب، خلال أربعين عاماً تقريباً من حكم «الأب القائد». أما السكاكين فهي سؤال صاح به رجلٌ قتل عائلته قبل أن ينهي حياته بالسكين. سؤالٌ لا ينتظر إجابة، حول أداة تتيح الموت الفجّ الأصليّ في جسمٍ مجتمعيّ مريض، تُستغرب وتُستهجن حياته. الرواية كتبها السوري خالد خليفة (مواليد حلب 1964)، ونال عنها «جائزة نجيب محفوظ للرواية» للعام 2013.
ماذا يجري؟
تضع الرواية قارئها في قلب عائلةٍ مكوّنة من أمّ صلبة يجتاحها المرّ حتى تُنجز موتها في الخامسة والستين من عمرها. لها عائلة وشقيقان، ولها ابنتان وابنان، تموت الكبيرة سعاد في عار أمها منها كابنة ذات إعاقة لم نفهمها تماماً، بالضبط كما لم تفهمها الأم فسجنت ابنتها في وطأة عدم الفهم هذه، سجنتها في شعورٍ بالعار من سوء الإنجاز، فالرغبة بإخفائها واختفائها، حتى ماتت. الأشخاص الذين نتابع حيواتهم في القصة هم: الأم ذات المرارة القاسية المتكدّسة، شقيقها نزار ذو الميل الجنسي المثلي الذي لم يقمعه لمصلحة المجتمع وإنما شقّ لنفسه بالصعوبة والإصرار سياقاً داخل المجتمع وعلى ضفافه، ابنها الراوي المتخفّي خلف سرده لحياة عائلته يطلّ برأسه بين الفينة والأخرى كأنه يعيش هذه الحياة ويتفرّج عليها في آن، ابنها رشيد عازف الموسيقى ومؤلفها الذي أصابته حياة حلب في ذاك الزمن بسهمٍ سام في صلبه، وابنتها سوسن التي يقول الراوي إنها بدأت تكره أمها وانتهت تشبهها، ويخبر السرد أنها فاوضت حياة حلب كثيراً، نأت بنفسها عنها بقرف، ثم انخرطت في حزب السطوة بتماهٍ مع المعتدي ورغبة بامتلاك سطوته، وما انفكت تناور الحياة بجسمها وما انفكت تخسر مناوراتها.
لهذه العائلة أب من مستوى اجتماعي أقل شأناً من مستوى الأم وعائلتها، هرب إلى أميركا مع أميركية تعده بحياةٍ أفضل منذ بدء تكوين الأسرة. لنا معرفة بنوعية الطموح الراقي في عائلة الأم التي مات والدها، موظف سكّة الحديد ذو نيشان الخدمة المدنية على صدره، تحت عجلات قطارٍ بطيء، متقاعداً يوجّه الملاحظات للعاملين في السكّة، وقد سئموه. مات سريعاً بكامل أناقته تحت القطار البطيء، بينما الموت يحلّ ببطء شديد في هذه القصة. وعندما يُشتهى، يحلّ بأبطأ صورة ممكنة، تلك التي تسجّل تثاقل الجسم في التحلّل، وتثاقل الروح في مغادرته. الموت يحلّ عليهم اعتداءً، جهاداً، تحت القطار البطيء، أو تعفّناً ببطء أكبر. وحده موت «الأب القائد» يحلّ كمستحيلٍ، كمأساة.
معنى «النظام» في الجسم
أبرز ما يمسكه المرء بين يديه بعدما ينهي صفحات هذه الرواية ذات العنوان الآسر، هو معنى العلاقة ما بين «النظام» و«الشعب» في بلدٍ حكمه الحزب الواحد بديكتاتورية فظّة، بطيئة، تحفّز الصمت، وتملأ الهواء بضجيجٍ غير ذاك الذي يصنعه الكلام. وهي علاقة ليست بديهية أبداً، كأنها من طبيعة مختلفة عن لغة «الحرية والديكتاتورية» التي استنفدت أحرفها وما عبّرت عن المعنى. ففي هذه الرواية، يفهم المرء أن السلطة تصنع حياة الفرد تماماً كما يتدخّل اللاوعي في صناعة كل خيار واعٍ. تنساب إلى داخله من الشجرة العائلية، من الأم وحليبها المرّ، من الأخوة والجيران، من العنف في كل شيء، من إعادة ترتيب المجتمع على قواعد ظالمة. قواعد توزّع بينهم سلطات صغيرة تصنع بعضهم وتهين معظمهم وتكسر جميعهم، حتى تنتج منهم بشراً غير الذين صاروا هم. فيقفز من المشهد سؤالٌ عن التسيير والتخيير، بحيث يمتلك كلٌّ من شخصيات القصة خصوصيته في مقاربة الحياة كإنسان بنكهةٍ فردية، ويخضع في آن وضمن هذه الخصوصية لنموّ قسري موحّد، انفعالي أو هبوطيّ، ليصنع حياةً لا مَخرج منها سوى الموت. فيها، يكون لـ«التثاؤب» معنىً آخر، يكون موقفاً سياسياً حيناً، ويكون سِمة شخصية حيناً، ويكون البديل عن التعبير.
سوسن اختارت أن ترتدي ثياب العسكر لتكون بين المغتصبين والمعنّفين وكتّاب التقارير التي تودي بزملاء الدراسة إلى فشلٍ دامٍ ودائم. بعدما ذاقت طعم أن تكون الضحية، أرادت أن تمتلك القوة. فلا يكون فعلها إرادةً فردية مستقلّة، ولا تعريف هذه القوة مجرّداً، فتأتي مؤطّرة بأدوارٍ حقيرة تصبّ كلها في بوتقة الخضوع. وسوسن التي عطّلت ذهنها في آلية صناعة العنف، لم تحيّد جسمها عنها، فوضعته كسلّمٍ للحماية في سرير رجلٍ نافذٍ أحبّته لكنه أحب طائفته وأدمن هزيمته كخادمٍ ظنّ انه قائد صغير، فعاد إلى الطائفة وبنى فيها بيتاً فاشلاً يكرهه ويغرق في ذنب كرهه.
هذه عيّنة عن مصائر سورية لم تكن وليدة خيارٍ ولا هي وليدة تسيير. والحياة عامةً لا تجري في سكّة يحتكرها هذا أو ذاك طبعاً، لكنها تمتاز سوريّاً بغياب التوازن المنظّم للعلاقة بينهما. فالسلطة التي تعالجها الرواية قد اكتملت كقصةٍ تضع «الخيار» كبندٍ من بنود التسيير. ورشيد الموسيقي الذي سرقه الجهاد في بغداد من يوميات الموت بلا معنى في حلب، هو خير مثال عن ذلك: وجد في مدينته جماعات تتيح الموت لمشتهيه الكثر، وتنظّم معارضي الحزب الحاكم في كتائب انتحارية تخدم في موتها الحزب الحاكم. هي إعادة إنتاج للخيار كبند من بنود الخضوع.
اللغة ومضمونها
الرواية التي تروي حزناً كبيراً لا تقع على القلب كذلك، وإنما تمضي بتشويقٍ ما، بحبّ لشخصيات ما كان المرء يتوقع حبها لو رآها كنتيجة وليس كبناء من الأسباب يُشيّد حجرةً حجرة. فتمضي الرواية بين الأنامل والعيون بسلاسة. ويذكّر ذلك بالحياة التي تمضي رغم كل الظروف، وتشقّ لنفسها منافسَ ومنافذَ وتغييرات وأطواراً داخل الخوف الواحد الكبير، وبانصهارٍ معه. الرواية تلتقط هذا المعنى في وجوه العيش داخل الكارثة، وأسلوب السرد يعكس مضمون العيش. وللكاتب خصوصية في أسلوبه، يكتب الجمل الطويلة التي تتداخل فيها الأزمنة وتتداخل فيها الشخصيات وتتداخل فيها ضمائر الغائب والغائبة (ـه، ـها) حتى يلتبس الأمر أحياناً وقليلاً على القارئ، يبحث عن مستهل الجملة، يبحث عن الأشخاص في عجين الجسم الواحد، ويبحث عن الزمن في عجين التاريخ الموحّد. وإذ تتقدّم الرواية في سكّتها، يغزو المرء شعورٌ بأن الأزمنة تتداخل في صمت الأمكنة، والأمكنة ميّعت التشكيلات المجتمعية يوم غزاها التغيير حدّ الغرابة، حدّ تقطّع الأوصال ليستقر بينها الخوف والجريمة.
الأكبر سنّاً يحنّون إلى ماضٍ يرون سلطة الحاضر تعيد صياغته في المسلسلات والخطابات كـ«قلاقل وانقلابات عسكرية وإقطاعيين مصاصي دماء»، تماماً كما اختصر الإسلام ما سبقه من عصور الحضارة بحكمٍ ماحق اسمه «الجاهلية». ولكن يبقى لهم هذا الحنين يعودون إليه ليمتصوا المزيد من المرارة والعجز في انتظار الموت، في مقابل أولادهم الذين ولدوا في أواخر الستينيات لثورةٍ لم تتأخر في مصادرة أوجه حياتهم كافة، من شكل البلد إلى شكل الجسم.
سوسن هاجمت الموت بالجنس، رشيد الموسيقي هاجم الموت بالموت. الأم انتظرت هذا الموت في سريرها، وأمّ أخرى فعلت فعلها. الدين، الجنس، السلاح، السطوة، المخدرات، الاغتصاب، المال، الهدايا والعطايا، التقارير، الأقبية، التحقيق، السفر، الهرب، الخوف الكبير الدائم لغةُ الحياة، … موزاييك من الواقع يصنع التتمات التي نعرفها. موزاييك من الأجسام المريضة يصنع النتيجة التي نراها من ثورةٍ حلمت لكنها سريعاً ما اصطدمت باهتراء الجسد والفكر المتراكم.
الثورة السورية
وقف الناس أمام الثورة السورية يلومونها على غياب السياسة عن المعارضين، وعجز الكتل المجتمعية عن التشكّل. لكن لا شيء يحصل فجأة، من دون سبب. فالثورة التي لم تنتظر تشكّل وعي مجتمعي ورافعات مدنية لها، كانت تعرف ضمناً أن هذا الوعي وهذه الرافعات هي تحديداً ما استهدفه «النظام» بشكل منهجي بطيء وفظّ على مرّ العقود. فكيف ينتظرون تشكّلها وهي هدف التدمير المتواصل؟ وكيف ينتظرون، بينما الناس من حولهم يثورون، وهم يمتلكون من أسباب الثورة ما لا يقيسه عقل؟
مأزق الشعب السوري لم تتسبب به أسلمة الثورة، أو تسليحها، أو تدويلها، وإنما تلك جميعها هي نتائج المأزق السابق لها. والمأزق الراهن ولد يوم تشكّلت السلطة من فريق عملٍ أتقن آلية صناعة هذا المأزق وتأمين استدامته، بحيث يتحوّل خوف الديكتاتور من الشعب إلى خوف في الشعب. ومثلما رأى خالد خليفة في روايته، فإن الخوف عندما يسري يسود. وهو إذ يُرمى من أعلى هرم السلطة إلى أسفله، يمتلك خط عودةٍ يعيده إلى موقعه، فيتغذى دورياً من الطرفين، ويبني بينهما علاقة تفتيتٍ ينزل من أعلى إلى أسفل، وقلقٍ يتصاعد من أسفل إلى أعلى.
هذا المجتمع هو الذي «أنجبه» الأب القائد. طبع الناس به، وهم كانوا في أجسادهم متمايزون. هذا يمتلك ميلاً موسيقياً طاغياً، وذاك يمتلك ميلاً سلطوياً لافتاً، هذا يتسلّح بالأخلاق العامة وهذه تميل إلى خفة الجسد، … مجتمع بسيئاته وحسناته، قررت السلطة أن تقولبه ليكون هو نتاجها بدلاً من أن تكون هي نتاجه، فتبقى سلطة عليه، ويبقى المجتمع مريضاً أسير «رعايتها».
السفير