لا شيء بقي من حمص/ مريم تولتش
“نكت الحماصنة ” كانت في خاطري وأنا في طريقي إلى مدينة حمص قبل ثمانية أعوام، فضولي يتصاعد لأرى تلك المدينة، مثوى خالد بن الوليد، ومأوى أولئك الناس الظرفاء المعروفين بصفاء قلوبهم. وحين دخلتها أحببتها فوراً، ففيها بهجة من نوع خاص، الحدائق المحيطة بمسجد “سيدي خالد “كما يسمونه تحفل بالناس الذين يستمتعون بحبهم للحياة. هكذا عرفت حمص.
نقلة “ضوئية” عنيفة وقاسية دفعت بمدينة حمص لتحتل مركز الاهتمام عالمياً، فهي “عاصمة الثورة السورية”، وشخصياً سكنت أم رامي جارتي الحمصية اللاجئة في أحد شقق العمارة التي أقطن فيها، مع أطفالها الثلاثة وقريباتها اللواتي تملك كل واحدة منهن قصة هي مأساة في حد ذاتها، وتكفي نظرة واحدة لتشرح حال أولئك النسوة اللواتي عشن في هناءة من الحياة وفوجئن بتسارع للأحداث قلب أحوالهن بطريقة لم يتوقعنها أبداً.
أخت أم رامي، زهرة، ذات الستة والثلاثين ربيعاً، وأم لخمسة أبناء، زوجها من شهداء الثورة، لكنه لم يحمل سلاحاً قط. قتل على باب بيته وهو يدعو على النظام الذي اعتقل ولده الأكبر الذي لم يتجاوز سبعة عشر عاماً، من دون أن يعرف أحد مكانه.
خرج الابن من السجن ليجد أباه شهيداً وأمه لاجئة. رأيت زهرة في عمان، قلبها على ابنها الذي بقي في حمص بحي الوعر مع أهلها الذين لجؤوا كلهم إليه، كأغلب المدنيين في حمص، وفكرها موزع بين قلقها عليه وكيفية تدبير لقمة العيش لأبنائها، وحيدة بلا معيل.
لم يطل بها المقام وعادت إلى حمص، ليقبض النظام على ابنها الثاني هذه المرة، بعد اقتحام قوات الجيش لبيتها في منطقة خاضعة لسيطرة النظام لأنها لم تستطع دخول حي الوعر، بعد التحاق ابنها بالخدمة العسكرية، عاد جثة هامدة بعد أسبوع واحد فقط، وقال لها أفراد الجيش الذين سلموا تابوته: “سقط في مواجهات مع مسلحي المعارضة”.
لمى القوية، الأم لشابين بقيا في حي الوعر، لا يستطيعان الخروج منها خوفاً من القبض عليهما، ومذهلة جرأتها في التنقل بين عمان وحمص كل شهرين تقريباً، كانت تأتي لعمان لتطمئن على نصف أهلها اللاجئين وترى كيف تستطيع مساعدتهم، وتعود إلى حي الوعر لتطمئن على أبنائها، طوال أربع سنوات… لم تعد لمى إلى عمّان، الحصار المطبق على حي الوعر، أطبق عليها.
رغدة وأم باسل وأم مؤمن وغيرهن من القريبات اللواتي مررن ببيت أم رامي ليقمن فيه فترة قبل أن يجدن ملجأ آخر، عرفنني إلى حياة أخرى كانت تعيشها حمص آنذاك.
“ما ضل فييا شي” تختصر أم رامي وضع مدينتها: “وحي الوعر ممكن يوقع بأي لحظة” كانت تقول هذا والأخبار تتوالى من هناك عن الاشتباكات العنيفة بين الثوار والنظام، وانقطاع المدد عن الثوار الذين صمدوا بطريقة وصفها أحد الكتاب بـ”الأسطورية” حيث طال الحصار والقصف عليهم أكثر من أربعة أعوام. و”الحماصنة” الباقون هناك ينظرون إلى مدينتهم التي دمر نصفها تماماً، والأسئلة العبثية حول “إلى متى سيستمر هذا؟” و”ماذا يمكن أن نفعل؟” لم تعد ضمن السياق، فالموت جاثم في كل خطوة، والبديهيات الحياتية تزول، وروح الظرافة صارت وسيلة لحماية العقول من الضياع.
انتقلت أم رامي لتسكن في شقة أخرى صغيرة، فلم تعد تستطع تحمل تكاليف إيجار الشقة في عمارتنا مع طول أمد اللجوء، وحين أزورها في بيتها الجديد وأسأل عن أخبار أهلها في حي الوعر، تخبرني شيئاً قليلاً، فالتواصل معهم صعب مع انقطاع خطوط الكهرباء والإنترنت المستمر، وغالب أخبار حي الوعر تستقيها من قنوات الأخبار، وأهلها نفسهم لا يخبرونها بالكثير عندما يشبك خط الاتصال معها.
فالكلمات عاجزة عن وصف الحال، ولا تملك أم رامي بعد ذكر أهلها من مسك دموع عينيها عن الانهمار، وفي محاولة يائسة مني للتخفيف عنها وعن نفسي أربت على كتفها مؤكدة لها “توكلي على الله أم رامي، بإذن الله رح ترجع حمص، ورح ترجعي تعيشي فيها، وبدي أجي أزورك هناك، أقولك ..لأ، رح أجي أسكن عندكم، ونرجع جيران..”.
العربي الجديد