لا مدافن للغرباء!.. اللاجئون السوريون بلبنان يكافحون من أجل دفن الأطفال
يسهل تمييز قبور الصغار: حفرة صغيرة بالأرض محشورة في الحواف الطويلة للمقبرة. مستطيلٌ من 4 كتل إسمنتية يكفي لاحتضان الجثمان الصغير بالكامل؛ لا شواهد من الرخام تبين الأسماء، فقط حشائش جافة غير مهذبة تسمع حفيفها في نسيم وادي البقاع. في مقبرة الرحمة، ليس ثمة قبر لأطفال اللاجئين يحمل علامة سوى قبر واحد، عليه اسمٌ غير مقروء محفور على الحجر بأداة حادة، يدل على أن أباً مكلوماً وقف بهذا القبر.
يقول حسني شفيق، متعهد المقبرة: “أترون هذه القبور الصغيرة التي حفرناها إلى هذا الجانب؟ إنها جميعاً لأطفال، جلهم من السوريين؛ إنهم أطفالٌ كثر؛ دفناهم في الجوانب، وعلى الأطراف، أو بين قبور أخرى؛ أينما توافرت لنا مساحة”، وفق صحيفة الغارديان.
وفي الخميس الأخير من شهر مارس/آذار 2017، تجاوز عدد السوريين الذي فروا من بلادهم بعد 6 أعوام من الحرب 5 ملايين شخص. أكثر من نصف هذا العدد مسجلٌ لدى مفوضية الأمم المتحدة للاجئين في لبنان، مقابل تعداد سكان كان يبلغ قبل الحرب 4 ملايين شخص، وهو ما يعادل المقابل لكل شخص في المملكة المتحدة التي تستضيف 13 مليون لاجئ.
طرق المعاناة
ولكن في لبنان، هذا البلد الصغير، الذي يضم 18 طائفة دينية رسمية، تحمّل السوريون ضروباً من الإهانة، تبدأ من إجراءات التأشيرة المُضنية، ومروراً بالمعاملة السيئة والمهانة على الحدود وفي مكاتب الإقامة، ووصولاً إلى عمالة الأطفال والاستغلال الجنسي، والحياة في خيام بلاستيكية هشة تنهار في الشتاء، وظاهرة الخوف من الأجانب الملازمة للساسة المحليين وينقلونها بدورهم إلى أتباعهم المتربصين. وفي الوقت الحاضر، يمثل الموت المحطة النهائية لقاطرة المهانة. فمعاناة أسر السوريين الذين يتوفاهم الموت في لبنان تتزايد للعثور على مكان لدفن أحبابهم؛ ما يضطرهم أحياناً إلى تركهم شهوراً أو أسابيع في ثلاجات المستشفى في أثناء البحث عن قبور تقبلهم؛ ثم يعانون لتجميع المبالغ اللازمة لإخراج الجثامين من المستشفى، ويحملونها أحياناً في صناديق من الورق المقوَّى أو بسيارات أجرة، ويحفرون القبور بعد ذلك بأيديهم.
محرومون حتى من العواطف الإنسانية التي تعتري البشر حين يفقدون عزيزاً
تتفاوض المؤسسات غير الحكومية أحياناً مع البلديات للسماح للاجئين بمشاركة المقابر مع اللبنانيين، ولكن أعدادهم تتزايد بسبب حجم السكان السوريين الكبير، الذي يبلغ أحياناً 3 أو 4 أضعاف السكان المحليين. ويبدي بعض ملاك الأراضي استعدادهم لبيع الأرض لبناء مقابر؛ لما يعتريهم من القلق بسبب الانخفاض المفاجئ في أسعار العقارات وبسبب بعض الخرافات. أما السلطات الدينية، فما زالت بعيدة عن المشكلة.
ومعظم السوريين، الممنوعين من العمل في لبنان، لا يقدرون على دفع مبلغ الدفن الذي يتراوح بين 200 و300 دولار، والذي يشمل إتمام مراسم الغسل والتكفين وحفر القبور، ولا يجدون من المتبرعين إلا القليل.
ويقول الشيخ هيثم تيمي، مدير جمعية التنمية والتجديد التي تقدم يد العون للسوريين للعثور على مواقع للدفن ودفع تكاليفه: “السوريون لا يجدون الراحة أخيراً في الموت؛ فهم محرومون حتى من العواطف الإنسانية التي تعتري البشر حين يفقدون عزيزاً عليهم، حقهم الأساسي في الحزن والوداع”.
لا توجد بيانات شاملة لمعدلات الوفيات بين اللاجئين السوريين في لبنان. فمفوضية الأمم المتحدة لا تعترف إلا بحالات الوفيات التي يبلغ بها ذوو المتوفى، وغالباً لا يقدمون على ذلك؛ لأنها خطوة ربما تعني تخفيض الإعانة، أو إذا مات شخص في المستشفى في أثناء تلقيه العلاج. وأحصت المنظمة 2087 حالة وفاة عام 2015، على الرغم من أن العدد يرجح أنه أكثر بكثير إذا ما أخذنا في الاعتبار عدد السكان السوريين والقيود على الإبلاغ عن حالات الوفاة.
“لا مدافن للغرباء”
وصرح متحدث رسمي باسم مفوضية الأمم المتحدة للاجئين بأن المنظمة على علم بوجود مشكلات في العثور على أماكن للدفن، وفي حين لا يمكن للمنظمة المساعدة في إتمام إجراءات الدفن، فهي تقدم المساندة لعائلات المتوفين وتحاول إيصالهم إلى المنظمات غير الحكومية التي يمكنها تقديم المساعدة.
ويضيف المتحدث: “إن المنظمة على علم بالصعوبات العامة التي يواجهها اللاجئون السوريون في دفن أحبائهم بلبنان؛ وحين يجري إخبار المفوضية بمشكلات محددة، نطلب من شركائنا المحليين مساعدة اللاجئين في حلها عبر الحوار. وتعتبر الهيئات الدينية والمحلية، وشركاء الأمم المتحدة المحليين، والبلديات أهم الأطراف التي تحاول مساعدة اللاجئين في حل تلك الإشكالات”.
وفيما مضى، كانت المقابر العربية تتضمن جزءاً يُسمى “مدافن الغرباء”، يُدفن فيها من يموت من زوار المدينة، وهو ما أصبح الآن ممارسة منقرضة. وأقر وليد لويس، المسؤول في هيئة الأوقاف الإسلامية، بأن الأزمة باتت ترقى لمستوى الكارثة، ولكنه قال إنه “حتى حين تشتري الحكومة أرضاً لتحويلها إلى مقبرة، فإن الجيران يرفضون ذلك”.
ويضيف تيمي: “تشيع خرافة بين الناس أن المقابر لا ينبغي أن توجد إلى جانب المنازل؛ إنهم يحبون الحياة، ولا يطيقون فتح نوافذهم في الصباح ليتذكروا الآخرة. فالمقابر ينبغي أن تختفي عن أنظارهم، على الرغم من أنني أرى بصراحة أن خير الجيرة مجاورة الأموات، فلن يقدم أحدهم على إلحاق الأذى بك”.
بعض البلديات توصلت إلى حلول تسمح للسوريين الذين يعيشون في مخيمات لاجئين في قراها بأن يدفنوا موتاهم بمنطقة مخصصة في المقابر، مع رفض السماح للدخلاء بدفن موتاهم. ومن بين تلك القرى “العميرة”، التي تضم 15 ألف لاجئ سوري مقابل 7000 لبناني، وحيث يشغل الموتى السوريون أكثر من نصف المقبرة.
ويقول محمد الأحمد، عمدة القرية الذي ساعد في وضع القرار، وبقلبه غصة؛ لعدم تمكنه من مساعدة السوريين البائسين: “هذه أزمة حقيقية؛ تخيل أن يلجأ إليك شخص لا يجد مكاناً يواري فيه جثمان حبيبٍ له. وحين يسألك إن كنت لن تساعدني، فمن أقصد لأواري جثمان قريبي المتوفى؟! في سوريا لا منزل لي، وهنا لا يمكنني حتى دفن قريبي. تقف حينها عاجزاً؛ وفي قرارة نفسك تعلم أنه ينبغي أن يكون هناك مكانٌ ليواري جثمانه”.
تنكسر قلوبهم مرةً تلو الأخرى كل يوم
بالنسبة للسوريين في لبنان، تنكسر قلوبهم مرةً تلو الأخرى كل يوم، ويتلقى التيمي والمنظمات الشبابية المحلية كثيراً من المناشدات. ويروي لنا رجلٌ رفض الكشف عن اسمه أنه وجد نفسه مضطراً إلى حمل أبيه في سيارة نقل لساعات حتى تمكن من إيجاد مكان لدفنه في مقبرة في وقت متأخر من الليل، دون كفن.
وقال الرجل وهو يغالب دموعه ويبتعد عنا: “يريدون منا أن نلقي بموتانا على قارعة الطريق”.
لا تنقصنا قصص حول مأساة السوريين؛ فأحد المتطوعين في مجموعة شبابية في سعدنايل، القرية التي تستضيف 26 ألف سوري، يروي كيف تعين عليهم ترك جثمان رجل خمسيني في ثلاجة المشرحة 40 يوماً! وغالباً ما تتحفظ المستشفى على الجثامين إذا لم يكن لدى المتوفى أوراق عمل أو كانت أسرته مدينة.
ويقول شفيق، متعهد مقبرة الرحمة: “كان هناك رجلٌ وصل في سيارة أجرة، وبرفقته ابنه محمولاً في صندوق من الكرتون، وليس حتى حاملة خشبية. صندوق من الكرتون ربما حمل قبل جثمان الصغير بطاطا أو أحذية. رأيت ذلك بعينيَّ. وكان الأب موجوداً، يحفر قبر صغيره بيديه. وانفطر قلبي”.
الغارديان
ترجمة هافينغتون بوست عربي