لا نجاة لمن قهروا الوطن وأذلوا الحياة
محمد كتيلة
قبل هذا العار الكالح الرهيب، الباذخ في عريه ومجونه الفاضح، الغني عن التعريف والتصريف، الهاوي في مهاوي الردى، الصاعد المتطاول قدماً إلى قمم سفالة لم يصلها سفلة، لا من قبل ولا من بعد هذا الطوفان … لم يؤرخ تاريخ العدم الدموي الأرعن على جلود ضحاياه وعبيد الأرض، مذابح وجرائم أكثر همجية وشراسة، وأقسى وحشية بالغة العسف والوصف، مما يحصل الآن، في وطن الياسمين والمحبة والتسامح، بأيادي غزاة طغاة قساة، أسرفوا في التدمير والقتل إلى حد العمى والجنون، والذي فاق العدو الغاصب الأول – عدو الإنسانية جمعاء – في غطرسته وعنجهيته وصلفه وجبروته الحاقد.
همهم الوحيد والقريب البعيد، من كل هذا التوحش والفحش والبطش، تدبير شؤون نهاياتهم على التخوم والأنقاض، بإرتكاب أفظع وأبشع المجازر، دفاعاً عن عرش متهالك وقلاع وحصون وهمية، وعن ذات هلامية ساقطة، زلقة دبقة، متخمة بالعفونة والصديد، فإما الموت بأبهة مرتجلة زائفة تصنعها المدافع والدبابات، وإما العدم والفناء، أو بالإنتحار البطئ في جو إحتفالي جنائزي مهيب، يعلي من شأن الخراب والأنقاض والعدم، كمفردات للخواء والجهل المقدس والغباء، وكمترادفات حربية ضرورية لبلوغ نشوة الإنتصار في إخفاء صوت الهزيمة في هدير صوت الدبابات والمروحيات والمدافع، المتواصل ليل نهار في الأحياء والمدن والقرى، منذ أن طارت رسالة السلالة من أروقة القصر وحطت على جسد شهيد الثورة، حمزة الخطيب، ممهورة بختم العائلة وبالحبر الأسود لقائد الجيش والهلاك الأعلى، رئيس العصابات المدربة ومنذ زمن الأب الفاقد لأية شرعية، قائد المسيرة الدموية، على النظر إلى الشعب كطرائد وفرائس، وقد حان موعد قتلها ومحوها من الأرض والوطن والوجود.
حمزة الخطيب، همزة الوصل البريئة، بين صحوة الحاضر وإشراقة الغد… إبن الجنوب، طفل درعا التي هبت من أضلاع أطفالها المشلعة وأظافرهم المقتلعة، أولى هبوب الريح والعواصف الربيعية الساخنة، المشبعة برطوبة الذكريات الدفينة، الغارقة في الحسرات والألم، ذوداً عن الكرامة الضائعة وشطب الإنسان الحالم الطيب المسالم في أوقات السلم، والقوي البهي الجرئ البرئ الصعب في الملمات وأوقات الحرب القاسية مع العدو والسلالة .
تلك الجريمة الماكرة اللئيمة الغادرة، التي أودت بطفل البراءة والآلوهة، لم تكن هي الجريمة الأولى المسجلة على حائط الدم في تاريخ البلاد المتسلسلة جرائمه من الخلف البائد إلى السلف الصاعد إلى قمة الهاوية … بشاعة تلك الجريمة مكنتها من مزاحمة الجرائم الكبرى في تاريخ الفظاعات وضارعتها لتصبح في تكرارها الوحشي المتوحش البغيض، في صدارة سجل الخسة والوضاعة والإنحطاط .
لم نكتشف في التاريخ الموغل في دم ضحاياه، طغاة برابرة جبابرة، تعاملوا مع شعوبهم كأسرى حرب أو كعبيد لأسرة مارقة جارحة لا ترحم، تعودت على فعل الأذى، وكما تؤذي البشر وتعمي البصر، تفتت الصخر من أهوالها وتفلق الحجر .
إنهم يبحثون وبالجنون وبكل ما لديهم من طاقة تدميرية، عن ممر آمن بين الجثث والأشلاء والأنقاض، يأويهم من الهلاك المحتم وبؤس المصير، ويبعدهم عن جحيم الهاوية بعد أن بلوغها بأنفسهم الهاربة من عقاب ما اقترفت أياديهم الوسخة وعقولهم الدنيئة، من جرائم فظيعة وما خلفوا من آثام لن تمحى ولن تغتفر ولن تنسى !!
هؤلاء هم الأشقياء بالرثاثة والوراثة، الذين تحدروا من سلف كان المشرع الأول والأرذل لفنون وجنون الجريمة وتقنياتها الخارقة وطرائقها التي لا تتوقف عند أي حد ولا تنتهي، يجتمع فيها اللؤم والبغض والكراهية وحقد يبعث على الإشمئزاز والذي يدفعك مكرهاً وبشكل تلقائي لتقرف منهم ومن وجودك حياً ، وأنت ترى وتسمع في كل يوم ودقيقة ومع كل رصاصة وقذيفة ما يجري من أهوال وفظائع… تتملكك الحيرة، يأسرك الأسى والغضب والشعور المذل بنقصانك وتلاشيك، وترميك كجثة هامدة لا حراك فيها ولا قوة وبلا طائل، مجرد جيفة متفسخة، ملقاة على قارعة أيام الحرب والمجازر وفي فم العدم، متمنياً ببلاهة، الخلاص لك وللشعب المدمى في نزول معجزة من السماء، بعد أن توقفت الأرض ومن يسكنها من غرباء وأصدقاء عن مد يد المساعدة لوقف المجزرة المستمرة بعد فراغ العقل ويباس العاطفة والوجدان، وبعد إحتراق المعنى والضمير المثخن بالأوجاع والجراح وغض النظر.
لقد عادوا بالتاريخ إلى ما قبل عصور الظلام والعبودية والحيونة الأولى، وما كان يحصل في الكهوف والأدغال والمغاور… أقعدوا الزمن على ركبتيه، ومن ثم داسوا ورقصوا على رقاب وظهور الشعب ليسألوه بسخرية لاذعة مهينة وبشعة : بدك حرية !! وعندما أماتوههم وكما ظنوا، وبعد أن قهروهم وأذلوهم أمام أهاليهم والعالم، أفلتوا فحول وحوش البلاط وحرس العرش وخاضوا حربهم الشرسة – إما قاتل أو مقتول – في شرق البلاد وغربها لإخفاء صوت الحرية، وليس قدر الإمكان أو إلى حين، بل وإلى الأبد، ولا خيار لأحد، وليس من حقه أن يكون مع أوضد، فهو وغيره من مستلزمات هذا الأبد… هم البداية وهم النهاية وغير ذلك لا يعلمون ولا يفقهون، حتى لو أُطبقت السماء على الأرض.
لا نجاة لهؤلاء الطغاة الأشرارمن عقابيل الجرائم التي ارتكبوها وبالعنجهية المقيتة السافرة في حق هذا الشعب الفدائي المقاوم ،إلا إذا استمر ضمير العالم محصوراً في البكاء ومحاصراً بالإنشغال الدائم في الإستهجان والإستنكار وذرف الدموع بعد كل مجزرة ومحرقة.
لا نجاة لمن قهروا الوطن وأذلوا الحياة في عيون الأطفال والرجال والصبايا والشباب والأمهات، ولا نجاة ولا حياة لمن حابوا ودافعوا عن الطغاة ومن وضعوا كبرياء الوطن وكرامة الشعب تحت أقدام حفنة من رعاع وثلة من العسكر الجبناء.
كاتب فلسطيني يقيم في كندا