لا يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره/ أمجد ناصر
أيّ دور يمكن أن يلعبه الشاعر الآن؟
أيّة مساحةٍ له في الزمن اليومي، الذي يحتله سياسيون، رجال دين، مغنون رديئون، طباخون، مزوّرو حقائق، قَتَلةٌ برتبة رؤساء جمهوريات؟ وماذا في وسع الشاعر، وارث أوّل الكلمات، أن يفعل في حمّى ثورة الاتصالات وجنون الاستهلاك.. والبراميل المتفجِّرة التي تتساقط على رؤوس الناس بدل المطر؟
هذه الأسئلة لا تطرح الآن، حسب معرفتي، على الشاعر في الغرب. فلم تكن للشاعر “الأهمية” التي عرفها في ثقافتنا العربية الكلاسيكية، حتى كاد أن يكون نبيِّاً (المتنبي مثلاً)، بعدما كان عرَّافاً، أو وزير إعلام القوم المتشامخ. الشاعر في الغرب، اليوم، مهما كان كبيراً، بالمعنى الابداعي، يظلّ هامشيّاً. قصارى ما يسعى إليه كرسي في جامعة، أو مشاركة في مهرجان شعري، يحضره نفرٌ من “المهتمين”، ومجموعة شعرية، لا تتجاوز نسخها ألف نسخة، وأحياناً خمسمئة، وعليه أن يجرِّب الرواية، فإنْ نجح فيها قفز من “المركب السكران”.
فليس للشاعر في الغرب حضورٌ يوميٌّ ليُفتَقد عندما يغيب.
قلّة هم الذين يسألون عن آخر مجموعة لهذا الشاعر، أو تلك الشاعرة.
***
حتى مجيئي إلى الغرب (لندن، تحديداً) كنت أظن أنَّ شكسبير هو ماء الناس وخبزهم، وأن تي إس إليوت على كل شفة ولسان، لكن الحقيقة غير ذلك، على الرغم من أن هذين الشاعرين موجودان في المنهاج المدرسي، وهما، بهذا المعنى، معروفان لجمهرة واسعةٍ من البريطانيين، لكنها معرفة اسم وموقع وأثر أكثر ممّا هي معرفة مُنَتج. فالشعر، هنا، كما تبيّن لي لاحقاً، هو لنخبة محدودة، لا يقصده (شراء ديوان، حضور أمسية) إلا مَن هم على صلة “مهنيّة” بهذا الفنّ المعزول. غير هؤلاء يصعب أن تصطدم بـ”فضولي”، أو عابر طريق، في ندوة شعرية. أنَّى، أصلاً، للفضولي أن يعرف طريقه إلى ندوة شعرية، فالصحافة اليومية، بما فيها “الجادة”، لا تهتم بهذه “التخصّصات” الضيّقة، فهي لا تفرد صفحاتٍ يومية للثقافة والنصوص الإبداعية، كما هو الشأن في الصحافة العربية، ولا تقدِّم إلا ما يُقبِل عليه الجمهور العريض. السوق، حتى عند أكبر الرؤوس، هي المعيار.
هنا (في بريطانيا مثلاً)، لا تتصفّح الجريدة لتقرأ قصيدة، أو قصة قصيرة، أو تقريراً عن ندوة أدبية، أو أخباراً قصيرة عن نشاطات أدبية تشهدها لندن. إنْ أردت ذلك، عليك أن تنقِّب عن عناوين مجلات ودوريات مصابةٍ بفقر دم مزمن، لا تتلقاها مكتبة، ولا تُعرَض في سوق، بل تُطلَب، غالباً، بالاشتراك الشخصي.
فهل هناك عزلةٌ للشعر أشدّ من هذه العزلة؟
***
على الرغم من “تخلّف” أحوالنا في العالم العربي، على غير صعيد، وعلى الرغم من مقاومة الاستبداد الشرسة للتغيير بالدم والاعتقال والنفي، ما زال للمثقف بعض السلطة المعنوية، والحضور في الحياة العامة، بينما لا يملك المثقف الغربي حضوراً ودوراً، إجمالاً، في مجتمعه، وهذا ما لاحظه إدوارد سعيد في تشخيصه “دور المثقف”، الذي صيَّرَه هذا الطور من الرأسمالية (أو هو صار) “مهنيّاً”، “مختصاً”، فاقداً، بهذا المعنى، قدرته على الاعتراض. وهو عكس ما قام به سعيد الذي قدم، للغرب نفسه، نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه المثقف في الحياة العامة. ما كان لصاحب “الاستشراق” أن يلعب ذلك الدور، لو لم يكن “صاحب قضيّة”، لم تكن حكراً على فلسطين وحدها، بل وضعت فلسطين في قلب قضايا التحرر والعدالة في العالم. كان يمكن لسعيد أن يبقى، لولا تمرّده على الدور “المرسوم” للمثقف الغربي، ناقداً أدبياً وأستاذاً جامعياً، لا يتجاوز تأثيره حدود هذين الحقلين مهما علا كعبه. لكنه عندما أدرك “قضيته” و”هويته”، خرج من أسوار الجامعة إلى الشارع.
***
هل هذه دعوة الى رفع الشاعر على أكتاف التظاهرة؟
كلا.
قد يكون الشاعر، كعامل في الحقل العام، قائداً لتظاهرة، ولكن، ليس شعره. للشعر دور جمالي أعمق، في عملية التغيير، من الهتاف والنشيد. إنه الإسهام في تغيير الأعماق، وليس السطح، أو الواجهة، وتغيير الأعماق عمل طويل وبطيء، وربما مملٌّ، لكنه ضروري، فمن دون الوصول إلى حيث ترسب الماضوية، والانشداد إلى الخلف، باعتباره إرثاً وتراثاً، وإلى حيث تضخّم الذات الاستيهامي يُدعى انفراداً عن العالمين، لن يكون هناك تغيُّر حقيقي. ولقد رأينا كيف سقطت قشرة التغيير والتحديث في العالم العربي أمام ناطقين باسم غيب،ٍ لم يكلّفهم النطق باسمه.
العربي الجديد