لبنان الرهانات والرهينة
سليمان تقي الدين
تنحسر هيبة الدولة وينحسر نفوذها من منطقة لبنانية إلى أخرى، وتوالت الأحداث الأمنية من شمالي لبنان إلى بقاعه، ومن عاصمة الجنوب صيدا إلى الضاحيتين الجنوبية والشمالية لبيروت . بعض التحركات والاحتجاجات والاعتصامات مطلبية اجتماعية تتعلق بمصير مئات من العمال المياومين ومصير أسرهم في مؤسسة كهرباء لبنان، أو المعلمين الثانويين ورواتبهم، أو أولئك الذين يطالبون بإيصال الكهرباء إلى منازلهم ومتاجرهم ومصانعهم . أما المحتجون الآخرون فهم يطالبون الدولة باعتماد سياسات تتعلق بالأمن، إما ضيقاً من سلاح “حزب الله” وإمّا ما يعدونه انحيازاً من المؤسسات الأمنية والقضائية الشرعية، وفي معظم هذه الحالات هناك جماعات صغيرة نمت على هامش الأحزاب والقوى والتيارات الكبرى والأساسية التي تسيطر على التمثيل السياسي الرسمي في البرلمان والحكومة . ترافق هذه التحركات مظاهر مسلحة تؤكد انتشار السلاح الخفيف والمتوسط على نحو واسع بين أيدي الجمهور فضلاً عن وجود سلاح نوعي لدى جميع القوى السياسية الرئيسة التي تمثل الجماعات الطائفية .منذ العام 2005 تحولت مؤسسة الجيش اللبناني إلى قوة رئيسة للأمن الداخلي رغم عديدها القليل وعتادها المتواضع . بل إن الجيش الذي انتشر في الجنوب تنفيذاً للقرار الدولي 1701 قد خفض عديده لمصلحة معالجة الثغرات الأمنية المتوسعة . فقد جرى إنهاك المؤسسة العسكرية واستنزاف دورها بالمطالب الملحّة للفصل بين المناطق وفي خطوط التماس السياسي والجماعات وفي الحوادث الأمنية المتنقلة، بحيث بات وجود الجيش المادي على هذه المحاور أو في هذه المناطق والمدن، ضرورة للسيطرة على الحوادث الأمنية والنزاعات المسلحة، خاصة في منطقة الشمال مؤخراً . وقد دعي الجيش إلى لعب دور استثنائي على الحدود اللبنانية السورية، وهي تزيد على ثلاثمئة كيلو متر، للسيطرة على عمليات التسلل بالاتجاهين في جغرافية صعبة وعبر تداخل تاريخي بين الحدود والأملاك والسكن والعلاقات الاجتماعية .
أُعيد توحيد الجيش بعد اتفاق الطائف بقرار سياسي، وأعيدت إليه ثقافة الوحدة الوطنية وما يسمى العقيدة القتالية . فهو جيش وطني لكل اللبنانيين ومكلف الدفاع عن حدود الوطن ضد عدو هو الدولة العبرية، وخضعت عملية التأهيل لهذه السياسة بالتعاون مع سوريا التي وقعت اتفاقيات مع لبنان للتعاون بين جيشي البلدين وحفظ أمنهما المشترك .
خلال هذا المسار رجح اتجاه سياسي جديد في هذه المؤسسة وقامت المخابرات فيه بدور متزايد للتنسيق مع سوريا والمقاومة . أدى الجيش دوراً مهماً في حماية السلم الأهلي في مرحلة الانقسام الوطني الواسع منذ العام 2005 ومايزال يحظى بالكثير من التقدير والاحترام وإلى حد بعيد بالإجماع . لكن معظم هذه المصداقية والثقة مستمدة من قرار سياسي لتحييده عن الصراعات الأهلية ومساعدته على حل المشكلات الأمنية بالتوافق أو بالتراضي من غير اختبار قوته المادية . وباستثناء معركة نهر البارد مع ما سمّي “المجموعات الإرهابية” لم يخض الجيش معركة عسكرية فعلية .
ليس هناك من اعتراض حقيقي على دور الجيش بمقدار ما هو اعتراض على السياسة الأمنية والخارجية والدفاعية للحكومة . فهناك قوى وجهات بدأت تتصرف على أنها صاحبة حق في شكل من أشكال الانخراط في الأزمة السورية مع هذا الطرف أو ذاك، ويضيرها ألا يكون الجيش مسهلاً لهذا التورط، مع علمها الأكيد أن اتساع هذا التورط يقود إلى نزاع أهلي داخلي . فلا يمكن تحميل الجيش أعباء تفوق قدرته على الاحتمال من حيث الإمكانات المادية ومن حيث التوجهات السياسية . لقد اجتاز الجيش جملة من التحديات حتى الآن لكن حجم التوترات السياسية واتساع رقعة المشكلات والمناطق المعرضة لهذه التوترات تدعو إلى القلق الشديد من صعوبة استيعاب كل هذه المشكلات . ففي لبنان كان الأمن دائماً مسألة سياسية، وكانت وحدة مؤسسات الدولة وفاعليتها مرتبطة بحدٍ من التوافق السياسي الذي يتراجع بسرعة اليوم .
قد تكون المشكلات الداخلية تحت السيطرة طالما أن الفرقاء يحافظون على اللعبة السياسية الديمقراطية ومازالوا يحتكمون إلى العمل السلمي ويتحضّرون إلى خوض الانتخابات . لكن الأزمة السورية شارفت على نقل آثارها إلى محيطها مع كل هذا العنف الشامل والفوضى والمداخلات الإقليمية والدولية والرهانات على أدوار للجماعات الطائفية والإثنية ومشاريع التقاسم السياسي للمنطقة . وكلما أشتد الصراع في سوريا شعر الفرقاء اللبنانيون بأنهم معنيون في المزيد من التدخل وارتفعت النبرة السياسية وحدّة المواقف على وقع المخاطر الإقليمية . لكن اللبنانيين مع ذلك في معظم قياداتهم السياسية لم يقررّوا أن الوضع خطر إلى درجة الحاجة إلى تحييد أنفسهم عن صراع قد يقرر مصيرهم من دون إرادة منهم وعكس ما يتمناه معظم اللاعبين .
الخليج