لبنان جارنا الكريم/ نجاة عبد الصمد
كان الشباب السوريّ قبل اللجوء الحاضر إلى دول الجوار، يتربّى على أن هذه البلاد هي أرض ميلاده وانتمائه، لكنّ زهو شبابه لن يكون فيها. فيها سينمو ويكبر حتى عمر النضوج، ثم يسافر للعمل خارجها تاركاً أطفاله ينمون في غيابه كأعشاب البراري. لن يعود ليهنأ بين أهله في وطنه إلا عندما يستنفد الاغتراب طاقته، أي حين يكون وصل إلى أرذل العمر وصار ينتظر أن يستريح جسده في مدافن هذا الوطن، لصق ترابه الذي يحبّ سواه.
منذ أجيال، وأرزاق الشباب لا تطاوعهم إلا خارج هذه الـ سوريا المرّة والحلوة. لم تكن أعياد أطفالهم الشحيحة تتبع مواعيد الأعياد المثبتة بلون مغاير على صفحات التقويم السنوي، إنما مع عودة الآباء في إجازةٍ قصيرة بين مهجر ومهجر، حاملين معهم القهر والشوق والخبز السياحي الطريّ، والبسكويت والمرتديلا والعلكة ولزوم المدارس. لا تكاد أماكن هؤلاء الآباء “المغتربين” تدفأ حتى يغادروا من جديد من حيث قدموا، أو إلى بلد جديد يقايض زنودهم المفتولة، وعنفوان شبابهم وأمانيهم الباهظة بلقمة العيش من دون زيادة، وأحيانا بنقصانٍ كبير!
لبنان نافذة السوريين الأولى، وكثيراً ما تكون الوحيدة. لبنان جارنا الكريم. لا يشترط على الوافدين إليه فيزا لدخوله بداعي العمل. في إمكان الفقير تدبُّر نفقة الطريق إليه مهما ضاقت به الحال. وكذلك العودة منه سريعاً لو فاض به الشوق إلى زوجةٍ حلوة، أو مات أحد الأقربين، أو حدث طارئ لعائلته الضعيفة في غيابه.
ماذا يشتغل السوريون في لبنان؟
ما أكثر ما تشبه حالُهم حالَ أشقائهم الفلسطينيين في أراضي 1948! لهم كل الوظائف التحتية التي لن يشغلها مواطنو البلدين. يتولّى العمال السوريون في لبنان معظم أعمال البناء والكساء، وهم نادلو المطاعم والمقاهي، وهم فرّاشو الفنادق وغاسلو الصحون في مطاعمها، وهم نواطير القصور، والسائقون عند أصحابها. وهم عمال ورشات إصلاح السيارات وغسيلها، وهم عمال التنظيفات في البلدية وفي المشافي، وهم ماسحو الأحذية على الأرصفة، وهم بائعو الورود في الشوارع السياحية وبائعو الترمس والفول وغزل البنات في الشوارع الشعبية، وهم سائقو التكسي، وهم بائعو اليانصيب، وهم الجوّالون خلف عربات البضائع الشعبية في الأحياء النائية. ولن يتوانوا عن ابتكار أي مهنة جديدة تدرّ عليهم وترفع سويّة دخلهم.
ليس لهؤلاء العمال تأمين صحيّ أو نقابيّ. قد يحظون بأرباب عمل ينصفونهم أثناء العمل وعند استحقاق تعويضاتهم، وقد لا يحظون. هم دوماً عرضة لتقلّبات المزاج السياسي اللبناني بين موالاة ومعارضة. قد تخطف أنفاسهم رصاصة خاطئة، أو رصاصة مصيبة يغيظها انتماؤهم المذهبي، أو رصاصة تكره النظام السوريّ أو الهوية السورية. الضحية هنا رقمٌ قد يسعد بورود خبر موته في نشرة الأخبار كحادثٍ “مؤسف”. رقمٌ لن يتوصل أهله أو ورثته إلى معرفة: لماذا قتِل؟ وقد تؤدي حكومته واجبها تجاهه كمواطنٍ “يتمتع” بالجنسية العربية السورية، فتستنكر وتطالب بتحقيقٍ في مقتله، وقد لا تفعل.
إنما: أليس في لبنان مواطنون يزاولون هذه الأعمال؟! بالتأكيد نعم. وقد كانوا دوماً يتناكفون مع السوريين حول أحقية أهل البلد بفرصة العمل فيها. ثم تفاقمت احتجاجاتهم مع طوفان اللجوء السوري الحاضر إلى لبنان. صار فقراء البلدين يقتتلون على رغيف الخبز وعلى كل الدروب التي تأخذهم صاغرين إليه.
يقول مواطنٌ لبناني: أنا أعمل في الصبح حدّاداً. بعد الظهر سائق تاكسي، وبين العملين يستدعيني المرضى لإجراء مساجات طبية درّبني على فنونها والدي الحكيم. لا أتقاضى منها أجراً لأنني نذرت جهد يديّ هذا لوجه ربي. إنها وصية المرحوم أبي. لكن هؤلاء السوريين يقطعون الآن أرزاقنا: أولاً لأنهم يرضون بأجورٍ لن نرضى بها نحن، فيفضّلهم المقاولون علينا، وهم للأمانة يعملون بجدٍّ وإخلاص. ثانياً لأن العامل السوريّ يكتفي بسندويشة فلافل وكأس لبن. وتراه يجمع نقوده ليرة فوق ليرة، ويصرّها في كيسٍ يرسله إلى أهله في سوريا. لو أنه مثلا يبني بيتاً هنا أو يترفه في أكله ولباسه أو يخرج للسهر في المقاهي لكان أنعش حركة السوق لكنه لا يشغل تفكيره إلا بتأمين أهله في ذلك البلد الذي جاء منه. الطريف أن شكوى هذا المواطن اللبناني تحاكي شكاوى السوريين في المدن “الآمنة”، حيث نزح إليهم أبناء وطنهم من مناطق أخرى هدّها القصف. ركن النازحون شهاداتهم العليا وعزّهم القديم جانباً، وانطلقوا يبحثون عن أي عمل ويرضون بأي أجر كي لا يبيتوا على جوع، وبدأ احتجاج أبناء المكان، تماماً كما في لبنان.
قد يقول قائلٌ: مهما تكن الحال؛ على الشعب الشقيق أن يوسع صدره لأشقائه السوريين. على اللبناني أن يقسر نفسه على استذكار مؤازرة الشعب السوريّ له أيام حرب تموز أو الحرب الأهلية اللبنانية السيئة الذكر. كذلك على السوريّ الذي لم ينزح من بيته، أن يتفهم حال ابن بلده الذي خسر كل ما يملك.
هل هم في الواقع أعداء أو متنافسون؛ وهم المبحرون في مركبٍ وحيد يحاول سيراً نحو عيشٍ وبلا خوف؟! هل لدى المنكوب صبرٌ أو طاقة ليوسع في صدره مكاناً أكبر من نكبته؟! أو ليتفكّر في عدوّه الحقيقيّ في قوتِه وقوّته؟!
* * *
أقول سأغادر، سأروح إلى أرضٍ بلا حروب، ولا تعشّش بين أعشابها زيزانُ الألم. هذا البويجي على الرصيف يدندن بلهجة حوران: خلّي يا خلّي سبّاطك غالي… بضربة فرشاية بيرجع وكالة.
صبيان المقاهي يموجون بين الطاولات، تثقل أياديهم بصواني القهوة والشاي. الشاي ينفث بخاره اللذيذ. يدفأ المكان به، وبالبريق الحزين في عيونهم. ترى هل يجد هؤلاء الصبية وقتاً لأنفسهم، لشرب الشاي الساخن مثلاً؟!
صبيّ الأركيلة الضئيل القدّ يتعثر في خطوه، ينوء بخوفه من أن يرمي بجمر قلبه بدلاً من جمرات الفحم على رؤوس هذه الأراكيل الساهية.
أجير الدكان يتيه بين دلال الزبائن الـ”هاي كلاس” وغضب مالك السوبر ماركت، وبين رجاء هؤلاء المقرفصين بجانب المحلّ منذ الفجر يحجزون لأنفسهم بقايا خضرةٍ ذابلة لن يشتريها جماعة الـ”هاي كلاس”.
بائع الترمس والفول يجرّ عربته بدولابها المخلخل، فترتجّ فوقها صحون الليمون وشرائح الجزر البديعة التقطيع.
تفترش الرصيف هذه الريفيّة الشامية التي قرّرت أخيراً أن تحترف التبصير. لا تزال تتدرب كيف تبيع النساء العاثرات وعوداً باهظة، تلوك لهنّ كلاماً محفوظاً لا يربط ولا يحل ولا يدكّ رشقة أمل ولا يستشرف الآتي.
أرتال الأطفال الحفاة يموجون على الأرصفة وبين السيارات وعلى أبواب الدكاكين، يكنسون الغبار عن الطرق بجلود أقدامهم، وبأياديهم الممدودة للعابرين، بينما تلوذ أمهاتهن في الزوايا الظليلة، يرقبنهن ويتمتمن بأدعيةٍ كي يجزل العابرون لهم العطاء.
يا إلهي كلهم سوريون! وجوههم، شقاؤهم، غضبهم، يأسهم، اجتهادهم، صبرهم، أمانيهم. هي النكهة السورية الدامغة تطلع من شقوق الأرض ومن منافذ الفضاء.
تختلط في ذهني ملامح المكان فلا أعود أعرف هل أنا في بيتي، أم في طريقٍ أليف يحملني كل يوم من بيتي إلى عملي؟ أم أنا في ريف السويداء الفقير والمذعور، أم في ريف الشام، أم في درعا، أم في حمص، أم حلب، أم دير الزور؟! يتبعني المكان كجروٍ أليف ووفيّ وصامت. أتابع السير لعل صورته تنجلي. يطلّ هذا البحر. من شطّه السعيد يناديني المصوّر المحترف والكاميرا على كتفه. يبيعني لقطةً سياحية من كاميرا قديمة وعريقة: تفضلي يا مدام، سأمنحك صورة للذكرى. ولو لم تعجبكِ؛ مزّقيها. تنطلي عليَّ حلاوة صوته، ووعده المعسول بفرح نادرٍ وغامض. أهرع لرؤيتها، فتحدّق فيّّ باندهاش أيّ غريبٍ تائه في شتاءٍ قليل الخير. ليس في الصورة سوى الرعب الذي ظننتني رميته خلف ظهري فوق موج هذا البحر. نعم هذي أنا، وهذه الروشة خلفي، وهذه بيروت أمامي، بيروت التي تتقاسم أرضُها اليوم مع الشتات السوريّ مئات الألوف من الأرواح السورية المعطوبة.
النهار