صفحات الثقافة

لسانان في فمي ورجُلان في جسدي

 

رلى راشد

 في باكورته “بؤس الرجل” (1948) وفي قصيدة “الشمس والموت” تحديدا، يصف غونزالو روياس ضريرا يبكي مواجها الشمس الحارقة. ها هنا ملامح عالم سيمضي في تصورّه الشاعر التشيلياني روياس، أحد ابرز أقطاب الشعر الحي في أميركا اللاتينية والراحل قبل عامين. يمكن استعادة مناخ روياس الإستعاري والمفهومي والجميل والمؤلم في “الأعمال الشعرية الكاملة” الصادرة لدى “صندوق الثقافة الإقتصادية” في المكسيك أخيراً. يحقق المؤلف بالقشتالية، أمنية روياس العزيزة بأن تُختزل تجربته في مؤلف واحد فحسب، وهو المعلن “أنا هو كتابي غير المكتمل، خبأتُه بمهارة تحت عشرين مجلدا رشيقا ليست سوى أقنعتُه، شخوص الشخص عينه”.

تزامنت ولادة أدب روياس مع ولادة السوريالية التشيليانية في 1938 ليطلق لعبة ملتبسة بين التخييل والواقع. نصوصه مشحونة بنشاط سمعي ووجودي وشهواني، حيث تصل الكلمات الى معنى جديد عبر إنفجارها. يعقد شعره الحواسيّ حوارا مع التصوّف الإسباني ومع الظلام وغياب الحياة أيضا، لكنه في المحصلة تأكيد ضد الموت.

نظّم مجلد أعماله الشعرية الكاملة كرونولوجياً، وجرى ترتيب الجزء الأوفر من القصائد عبر إضافة تعليقات تضيء على أصولها وتيماتها ونواياه الأساسية. تضم المجموعة عناوين عدة من بينها “الجميلات” (1992) و”مادة الوصيّة” و”ضد الموت” (1964) و”قصائد حب” (1991) وسواها، وفي كل هذه الوقفات روح تجمع بين الترفيه والمسحات الروحانية.

روياس شاعر الذاكرة والوفاء والتاريخ الشخصي. قصائده قصائد تشيلي بعدما تحوّلت الى اسطورة، الى رؤى تستشرف أمرا يزفّ حلم الطفولة. وجد صوته مكانه وسط التقليد الشعري التشيلياني العظيم الى جانب غابرييلا ميسترال وبابلو نيرودا، وعرف كيف يسمع ما عنده بين أصداء لا تنتهي. في 23 نيسان 2004، في “يوم الكِتاب” بإسبانيا في الكالا دي ايناريس مسقط رأس الكاتب ميغيل دي ثرفنتس ومركز انطلاق قطارات مدريد المتفجرة  قبلذاك بعام،  قلّد العاهل الإسباني خوان كارلوس الشاعر روياس ميدالية ذهبية مانحا إياه بذلك جائزة “ثرفانتس” 2003. جاء التقدير الأدبي متأخرا وروياس في السادسة والثمانين وهو أصرّ لحظة تسلمه أن يحيي روح الضحايا التسعين بعد المئة الذين قضوا في قطارات الموت.

بدا الإهداء بديهيا بالنسبة لشاعر ملتزم جعلت التبدّلات التي شهدتها بلاده، حياته تترنّح. في العام 1970،عيّنه الرئيس التشيلياني سالفادور الليندي مستشارا ثقافيا في الصين، لكن انقلاب 1973 العسكري فاجأه في هافانا وجعل منه منفيا من دون أوراق ثبوتية. لم ينزع عنه التغيير القسري صفته الدبلوماسية فحسب وانما أقصاه عن التدريس الجامعي أيضا بعدما عدّ “خطرا على النظام والأمن الوطنيين”. عاد الى تشيلي في 1979 رغم علمه ان ابواب الجامعة ستظل موصدة في وجهه، عاد ليقيم في قرية تشييان المنسيّة، محاولا مواصلة حداده الساكن على زوجته الثانية هيلدا.

روياس وارث الناس البسطاء، ناس القرية التشيليانية التقليدية. ولد في ليبو في 1917 لعامل مناجم وهو كتب عن مطرحه الأول “أرى نهرا يتلألأ كالسكين، راحلا/ أصغي الى ليبو خاصتي بين أريجين/ أشمها، أداعبها، أتذكَّرها في قبلة طفل، وعندما/ يجعلاني الريح والمطر أتأرجح. أشعر بقريتي/كأنها شريان إضافي عالق بين صدغي ووسادتي”. ملأت صور إضافية والذكريات منزله ايضا حيث نجد برقية من اندريه بروتون، السوريالي الآخر. أما في كتبه العشرين، فظلّ شاعر الحب المظلم وأبقاه الشخصية المحورية. تفسح الأعمال الشعرية الكاملة لتأمّل الشخص المتوزع في شخوص مختلفة الملتئمة لتصير واحدة. ألم يؤكد “هناك لسانان في فمي/ ورأسان في جمجمتي/ ورجُلان في جسدي لا يكف أحدهما عن إلتهام الآخر/ وهيكلان يتصارعان ليصيرا عمودا فقريا”؟

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى