لعبة الأمم في نسختها العربية الجديدة/ ناصر الرباط
لاقى كتاب «لعبة الأمم: اللأخلاقية في سياسة القوة الأميركية» لعميل الاستخبارات الأميركية السابق مايلز كوبلاند رواجاً هائلاً في العالم العربي بعد نشره مترجماً عام ١٩٧٠. فقد جاء نشر هذا الكتاب/الفضيحة عن تلاعب الاستخبارات الأميركية بكل أنظمة الحكم العربية والشرق أوسطية من مصر وسورية والعراق إلى إيران وتركيا لكي يعزز الاعتقاد السائد بعد صدمة حرب ١٩٦٧ لدى الطبقات المثقفة العربية، ولدى عامة الناس أيضاً، بأن الحكام الذين وعدوهم بانتصار مدوٍ على إسرائيل وقدموا لهم هزيمة شنعاء خسروا من خلالها ما بقي من فلسطين وأراضٍ عربية أخرى كثيرة، ما هم إلا عملاء وضعتهم الولايات المتحدة في مناصبهم لتأمين هذه الهزيمة بالذات. وقد قدم كوبلاند تفاصيل مثيرة عن علاقة الاستخبارات الأميركية بالزعماء العسكريين العرب في سورية والعراق ومصر وغيرها، وفي شكل خاص جمال عبد الناصر، ساهمت في زعزعة ثقة العرب بحكامهم وسياسييهم، وزادت من الشعور بالعجز وغذت الإحباط واليأس اللذين عما مختلف مناحي الحياة الثقافية والسياسية العربية لولا بعض الأمل الذي قدمته منظمة التحرير الفلسطينية الواعدة قبل أن تسقط هي نفسها في حمأة الموآمرات والمهاترات، ولولا البعض من استعادة الهيبة في حرب تشرين الأول (أكتوبر) ١٩٧٣، التي تبين لاحقاً أنها هي أيضاً كانت جزءاً من لعبة أمم خاضها أنور السادات وحافظ الأسد وهما عارفان بنتائجها المتذبذبة على المدى القصير والكارثية على المدى الطويل. أو هكذا اعتقدنا حتى جاءنا ما هو أكثر كارثية.
بعد لعبة الأمم، جاءتنا في نهاية القرن العشرين لعب أخرى تروم صياغة شكل وفعل وردود فعل العالم العربي بغض النظر عن تطلعات أبنائه وبناته أو مخططاتهم وطموحاتهم وأعمالهم. كان الاعتقاد السائد وما زال أن العرب عاجزون عن التحكم بواقعهم والتخطيط لمستقبلهم لأن حكامهم عملاء واقتصاداتهم مرهونة بالإرادة الغربية وسياساتهم ترسم وتخطط في عواصم الولايات المتحدة والدول الاستعمارية القديمة وربما إسرائيل أيضاً أو في مكاتب استخباراتها. فمن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحه شمعون بيريز أولاً وكوندوليزا رايس ثانياً والذي أراد إدخال إسرائيل في دورة اقتصاد المنطقة بعد توقيعها اتفاقات سلام مع مصر والأردن ومنظمة التحرير، وإدخال بعض الديموقراطية والليبرالية واقتصاد السوق في هيكل الدول العربية المترنحة، إلى مشروع الفوضى الخلاقة الذي ظهر بعد الغزو الأميركي للعراق عام ٢٠٠٣ والذي تخلى عن شعارات الديموقراطية والليبرالية وشجع قوى التفرق والتنابذ والتعادي الكامنة على الصعود إلى السطح مما فتت الدول العربية الضعيفة البنية من الصومال إلى الجزائر (التي خرجت من التجربة منهكة ولكن متماسكة). فالسودان الذي صار سودانين، ولبنان الذي حافظ على وحدته بعد حربه الأهلية الطاحنة ولكنه خسر سياسته ومشروعه الوطني التوافقي، إلى العراق وسورية وليبيا واليمن التي تطحنها اليوم حروب طائفية وعرقية، أصبح يقيناً لدينا أن حاضرنا ومستقبلنا مرهونان بأيدي غيرنا الغربي والإسرائيلي بغض النظر عن كل ما تبديه أنظمتنا الرعناء من تسلط وجبروت أو تدعيه من عداٍء للإمبريالية، أو الصهيونية وإسرائيل، أو، مؤخراً، لمشاريع العولمة عابرة القارات والاقتصادات والحدود الوطنية.
وقد زاد الشعور بالعجز مرارة في السنوات الخمس الأخيرة بعد تآكل ثورات الربيع العربي في أكثر من بلد وانتكاسها إلى نظام عسكري جلف في مصر. وأصبح الحديث عن دول عربية فاشلة ومرشحة للتشظي أو الزوال عادياً في دوائر التحليل والاستخبارات العالمية ومراكز الأبحاث ومعاهد دراسات الشرق الأوسط في الغرب. بل ظهرت مشاريع تقسيم غرائبية لإعادة تخطيط الجزء الآسيوي من العالم العربي برمته الذي سماه المفكر الفلسطيني منير شفيق سايكس بيكو الثاني. ويبدو اليوم أن بعض التحركات العسكرية في سورية والعراق وليبيا في شكل خاص تسير باتجاه تقسيم كهذا مما ضاعفت الإحباط الذي كان أساساً مسيطراً على مفكري العرب وعمومهم، الذين أصبحوا ينظرون إلى هذه المشاريع على أنها حقائق تتحقق بفعل فاعل يعجز العرب مجتمعين أو متفرقين عن ردعه. وما هو بذلك. فأي احتكاك أكاديمي متطاول بالمخططين الاستراتيجيين الغربيين الذين تحيط أسماءهم هالة من الهيبة سرعان ما يبين كماً هائلاً من انعدام الخبرة بواقع العالم العربي واستسهال للمشاريع والمخططات الكبيرة والتخبط. وأي متابعة للتصريحات التي تصدر عن سياسيي ومرشحي ودوائر صنع القرار الأميركية في شكل خاص والأوروبية الاستعمارية السابقة أيضاً كفرنسا وبريطانيا يظهر كماً هائلاً من التردد والتناقض والنفخ في قرب مقطوعة الكثير منه موجه للاستهلاك الداخلي. فالعالم الغربي بنتيجة الأمر في شغل شاغل عن مشكلات العرب الذين لا يشكل اقتصادهم مجتمعين (بما فيها دول الثراء النفطي) أكثر من ١ إلى ٢ في المئة من الاقتصاد العالمي. وهو يستدير مع باراك أوباما باتجاه الشرق الأقصى حيث النمو الاقتصادي الهائل والسيولة النقدية الكبيرة. ويبقى كل ما يريده العالم الغربي من العالم العربي – مكافحة الإرهاب، مسايرة إسرائيل، واستمرار تدفق النفط – مما يسهل تحقيقه من دون مؤامرات ولا مغامرات إعادة ترسيم حدود قد تكلف الكثير.
ما زلنا بالحقيقة نعيش عصر لعبة الأمم على رغم أن العالم تجاوزها وعلى رغم أننا بدأنا نفقد الكثير من مقوماتنا كأمم لنلعب لعبتهم. نرى الأمم الأخرى في آسيا وأفريقيا وأميرك االلاتينية (لاستعادة بعض من عبارات التضامن التقدمية القديمة) قد نفضت عن نفسها الشعور بالغبن التاريخي ونمطية صورة الضحية والاحتكام إلى نظرية المؤامرة في تفسير أخطائها ومطباتها ومشكلاتها وهزائمها، وأخذت واقعها وسياساتها ومصالحها واقتصاداتها ومخططاتها المستقبلية بيدها، ونجد أنفسنا مكبلين بكل هذه القيود المؤامراتية، الصحيح منها والمتخيل، ومحبطين نفسياً وسياسياً واجتماعياً بسبب ذلك. لست أدعي هنا أن الغرب والشرق (واليوم الجيران الأقربون من تركيا وإيران وإسرائيل طبعاً) لا يتدخلون في شؤون العرب، بل هم يفعلون ذلك، وهذا جزء من تركيبة العالم الجيواستراتيجية وعماد من أعمدة السياسة الدولية. بل لعلهم يتدخلون في العالم العربي أكثر من غيره من مناطق العالم الساخنة بسبب البترول وإسرائيل والسلفية الجهادية والموقع الاستراتيجي بين قارات العالم القديم الثلاث. ولكن يبقى السؤال الذي طرحه المفكر والسياسي اللبناني غسان سلامة على قناة «الجزيرة» قبل حوالى عشر سنين قائماً: «ماذا فعل العرب بمواجهة هذا التدخل غير المخفي؟» غير الشكوى والإحباط والاستسلام أو التعنت والعنترة.
* كاتب سوري وأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا M.I.T.
الحياة