صفحات الناس

لغة القاف السوريّة/ عدنان نعوف

 

 

راحت قدمي اليمنى تتحسّسُ الفراغَ المُحتَمل أمامي، أنا الواقفُ في طابورٍ بانتظار دَوري. كانت تحاولُ قضمَ مساحاتِ الآخرين تدريجياً، تمهيداً لتقدمٍ متاح على حساب غافلٍ أو متساهل في موقعه وحقه. كل هذا في سبيل وصولي بسرعةٍ أكبر إلى حيث يوجد محاسب “البيم”، ذلك المتجر المميّز بأسعاره المُخفّضة.

في تركيا، كما في باقي بلدان اللجوء، ثمةَ نظمٌ ضابطة ليوميات الناس لم يعتدها المواطن السوري خلال فترة مواطنته في بلده الأم، حين كان له نظامه الخاص في جميع المجالات الحياتية.

لوهلةٍ تناهى إلى مسامعي صوتٌ قادمٌ من سحيق تسجيلاتي الداخلية قائلاً: “قوم من هون أنت وياها وا لاااه”، في محاولة للقفز فوق أدوار الآخرين المصطفين، وفوق طموحاتي المتواضعة للوصول نحو المقدمة.

هذا الصدى المطبوع في الوجدان السوري المكلوم، والمشهد التخيّلي لاستخدام حرف القاف الصريح، جاء جرياً على الأسلوب الشهير المنسوب وفق إحالات سلطوية إلى رجال الأمن، وطبقاً للتقسيمات المناطقية إلى الساحل السوري.

تلك لهجة “رسائل شفهية”، فكاهية ومريرة في آن واحد، تعكس مركَبات عُقدٍ طافحة كالثآليل فوق جسد مجتمع سوري ترَكها للزمن ظانّاً، أنها ستختفي بلا علاج.

ورغم أن “لغة القاف” هذه ليست حكراً على فئة بعينِها بل تنتشر في مختلف المناطق السوريّة، وتبدو كعلامة مميزة لأرياف وأقليات تتغنى بها وتتخذها وسيلة إفصاح هوياتي أحياناً، فقد كان شائعاً أن يتم اختزال هذه اللهجة عبر ربطها بالطائفة العلوية صاحبة التاريخ والسجل الإشكالي الذي يتداخل فيه المجتمعي بالسياسي والعسكري، وهو ما وَضعَها في صِدام مع باقي السوريين.

ولهذا فقد كان طبيعياً أن يتوقف الأقلوي أو الريفي عند مجموعة محاذير قبل التعبير بأسلوب يحمل الكثير من الخصوصية. فهذه القاف التي قد يَحِنّ إليها هي ذاتها التي ربما يستحي بها، بل ويخاف أن توقعه في مشكلات مع أبناء جلدته من سوريي الشتات.

فتَحْتَ “رحمة” مِقصَّ الحلاق الحلبي.. أجدُ نفسي وأنا ابتلع موروثات بيئة نشأتي الأولى حرصاً على الحد الأدنى من العلاقة الطيبة بيني وبينه.

“أهلا وسهلا نورت الصالون ..منين حضرتك؟”، فأجيبه: “من حماه” دون أن أحدد ريفاً كانت أم مدينة.

يسألني: “كيف بتحب احلئلك؟”، فأجيب: “حلائة عادية”.. أو ألوذ بإجابة أخرى لا تحتوي حرف القاف من الأساس.

“ليش ما غسلت شعرك؟”. “خبرتو للصانع بس يمكن ما انتبه”. وفعل الإخبار هنا مُستخدم من قبلي للهرب من “قلت”، ولو أنه ليس المرادف الأمثل في هذه الحالة.

من الصعب تفنيد جميع الأسباب وراء تعاملي مع هذا الموقف، والذي قد يواجهه آخرون بطرق مشابهة إلى حد ما. لكن المؤكد أنه لا يمكن فصل الأفعال وردودها في هذا السياق عن واقع الحواجز التي ارتفعت بين أبناء البلد الواحد، وزادت علاقاتهم تعقيداً. فحدود الفرز بينهم تحولت إلى شروخ، واتسعت الخانات وأضيف إليها ما هو جديد، تبعاً للكوارث التي لحقت بسوريا، وموقع كلِّ سوري من المعادلة (مستفيد أم خاسر، جلاد أم ضحية، شبيح أم معتقل …).

غير أن المواقف البسيطة التي قد تحصل عند الحلاق ما هي إلا نموذج مصغر عما يمكن حدوثه في استحقاقات أكبر.

ومثال ذلك ما حدث مع صديقي، علي، لدى تقدُمِهِ لِشَغْلِ وظيفةِ مُدرِّس في إحدى المدارس السوريّة الخاصة باسطنبول، حيث اتضح أن المقابلة مع المدير كانت لاستكشاف مَنبَتِه، لا لِسَبْرِ خبراتِه ومؤهلاته الأكاديمية والعملية. ما جعله يخسر فرصته أمام منافس آخر يفتقد كلّ شيءٍ مما سبق لكن انتماءه يشفع له.

وغنيٌ عن القول أن السوري لم يترك حسابات الأقلية والأكثرية خلفه عندما غادر بلده. هذا إلى جانب كون عدد من المجتمعات المستضيفة تميزتَ بالتفاوت الكبير في نسب توزُع السوريين بحسب انتماءاتهم الطائفية والإثنية.

واستناداً إلى قدرة المجتمع على إدماج أبنائه، مواطنينَ ولاجئين، تتراوح علاقات السوريين ببعضهم. وإن كان الثابت بينهم حالة أقرب إلى “الإتيكيت” والسلوكيات اللطيفة ظاهرياً في التعامل، من دون أن يخفي ذلك وجود تكتلات وفق منطق الغَلَبة العددية.

ومع التصنيفات التي حملها السوريون في حقائب لجوئهم نحو الخارج ارتحلت أيضاً انطباعاتهم المسبقة عن بعضهم البعض، والتي توارثتها الأجيال وتحول بعضها إلى أساطير، مثل عبادة إحدى الطوائف لرَجُل، والوحشية منقطعة النظير لأبناء مدينة ما، والطقوس الغريبة في مأكل إحدى الإثنيات ومشربها أو حتى في علاقاتها الجنسية. وزادَ في أسطرة تلك الصور حجم التقوقع الذي، وإن استدعى شعوراً فئوياً بالطمأنينة، فإن ضريبته بالمقابل هي مزيد من التعتيم.

وبعد ذلك كله، من المنطقي طرح السؤال: ألا تصبح كل مسألة ملتبسة، مُؤجلٌ الحديث فيها- مهما صَغُرت – مشروعَ قنبلة موقوتة لمسائل أعظم؟ والسؤال الآخر هو: ألم يَحِن الوقت لنزع أي فتيل بدلاً من الخوف على نسيج اجتماعي مهترىء، ومحاولات الرتق تحت عناوين وطنية أو ثورية، واستمرار الصمت بحجة أنه “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ” وما عداها من مزايدات؟

شوهات كثيرة طاولت الخصوصيات الثقافية لجميع المكونات، بعدما لطخها الدم السوري خلال السنوات الماضية. ومع صعوبة مقاربة ما حصل، تبدو اللهجة قادرة على تكثيف جملة متغيرات ومتناقضات بشكل أو بآخر. فـ”قاف” اليوم المؤهلة لتوريط صاحبها على أنه من “المغضوب عليهم” هي التي كانت تعبيراً عن الفوقية القمعية، وقبل هذا وذاك لغةَ الطبقات والمناطق والطوائف، أضف إلى أنها اللهجة الخجولة المهزومة “قاف” الريف المنكفئة أما حضارة المدينيّين.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى