صفحات الرأي

ماذا يبقى من الحب إذا طرحت منه انفعالات الحس والبهرجة العاطفية؟/ بول عودة

 

 

كتابي، «خطوة الحب المستوفاة»، هو أولاً عمل فلسفي يضطلع برهانين: يرمي الرهان الأول إلى تناول الحب على وجه الإيجاب الذي يؤنسننا أنسنة قصوى، ويتمتع إذن بقيمة مطلقة. ويقضي الرهان الثاني بتجنب حمل جوهر الحب على عناصر نفسية – وهذا ليس من باب التمرين الإنشائي أو الأسلوبي. فما دعاني إلى الكتابة في المسألة هو حاجتي إلى فهم ظاهرة الحب، ورغبتي، في المرتبة الأولى، في إنقاذ الحب من تصوره الرائج. فهو، في زمننا، إما موضوع انفعالات حية وبهرجة عاطفية طاغية وعامة، وإما موضوع عزوف واستبعاد ساخرين ينتهي بهما المطاف إلى إثبات استحالة الحب أساساً وأصلاً.

والفلسفة أولت الحب على الدوام مكانة عالية. ولكنها، في الوقت نفسه، حملته على خدعة او على تواطؤ أوهام يجدر بالفيلسوف ألا يقع في شراكه. وبينما ينكر عصرنا كل ما يمت بصلة الى معجزة، أحسبُ أن مسؤوليتي (الفلسفية) تقضي بإثبات هذه (الجملة) الموجبة الخالصة: الحب إيجاب مطلق. واقتصرت معالجتي ربما على سؤال واحد: كيف يحل الحب في الرغبة؟ أو كيف تصاب الرغبة في الحب؟ ومسوغ السؤال ان الحب لا يعقل من غير الرغبة. وأنا أبني على هذا الفرض، ولا أتنصل منه. ولا اتنصل من قصر كلامي على الحب الإنساني.

وعلى هذا، يتجلى الحب في صورة مغامرة تقود الرغبة الى لقاء نفسها، وإلى ادراك تحولها تحولاً تاماً نتيجة لقائها نفسها.

وهذا قريب من التعريف. فيبدو الحب منقذَ الإنسان من الوقوع في كمائن تعليلاته النفسية البليدة، ومن تناوله العاطفي الذاتي لشخصه الضئيل، على قول جان – جاك روسو. فالحب يرفعنا الى مستوى أو صعيد لا يقارن بطوية عاطفية، فقيرة. فهو ليس عاطفة مقدار ما هو حادثة. وفوق الحادثة، وأبعد منها، هو وقوف في موقف. كيف ذلك؟ إنه وقوف الرغبة في موقفها (أو نزولها في منزلتها). ولا يقتصر الأمر على الرغبة الناسوتية الجنسية، بل يتعداها الى ماهيتنا بما نحن اجسام ناطقة. فوجودنا في عالم يترتب عليه قيام مسافة تفصل بيننا، وتنأى بنا من البشر والأشياء من حولنا. ويدعونا الانفصال الى السعي في الوصل، وطلب القرب والاستيلاء، اي الى خلط جوهرنا بجوهرهم. والرغبة هي وليدة هذا الفصل المتأصل، بينما الحب هو رُقيته المحتملة، ومحاولة تآلف أو تجاوز حتمه ولو هنيهة خاطفة. فالحب، بكلمة، هو معجزة، وهو المحال بعينه ونفسه. وسبق تعريف جورج باتاي المعجزة تعريفاً بديعاً: انها المستحيل والماثل على رغم استحالته، معاً. أي ان الحب هو الحادثة التي تتذرع بها الرغبة الإنسانية، الجاهلة من تكون وممَّ تكون، الى الإحاطة بنفسها إحاطة جامعة. ونازع الرغبة الأول نازع نرجسي، وعود على نفسها واشتهاء ما يتعداها. وهي ابتغاء «من» (أي ذات) وليست بغيتها «ما» (أي شيء). وتقصد الرغبة، ظاهراً، شيئاً بينما هي تقصد فعلاً وحقيقة، «من هو نفسه» الذي ينقصها وتقيم على انتظاره. وهذا سر الرغبة. فهي تسعى في ازديادها من نفسها، وفي تقوية نفسها وتمكينها وتثبيتها، وكأنها تريد نفي فقرها وخصاصتها اللذين فطرت عليهما. فتسأل الموضوع الذي تتوجه اليه جلاء طبيعتها أو ماهيتها. ولكنها لا تفعل إذ ذاك إلا الارتماء في شرك. فقبل التحول الذي يُعمله الحب في الرغبة تكاد هذه ألا تكون شيئاً، أو تكاد تكون بوتقة احتياج يجيب فراغاً. ولذا، فهي تناشد رغبة اخرى الرغبة فيها لعلها تجد في هذه الاستجابة بعض التماسك الذاتي. وهي قد تجد مثل هذا التماثل في مناشدة تبدو نرجسية فعلاً.

ولا شك في قيام الرغبة بلون من حب الذات، ولكن حادثة الحب لا تقتصر على حب الذات النرجسي. فهي تفترض طلب الرغبة الرغبةَ التي ترغبها (أو ترغب فيها) لنفسها وذاتها. والقول «لنفسها وذاتها» هو العلامة على الحب ومصدره وآيته. ومبادلة الرغبات هي في اصل الحب ومبتدئه، وتنهض على حبكة مأساوية وكوميدية بامتياز، من غير ان تعني «المبادلة» حباً متقاسماً يتشاركه المحبان. ارواء الرغبة هو مأساة الحب، وسعي في اطفائه. فالحب لا يقوم بمتعة جائزة بل بمسرة فعلية هي شكل من اشكال استقبال الحادثة وبشارتها. والحادثة في هذا المعرض، هي الحب. ومسرته هي ثمرة عتقه الرغبة من القدر الجهنمي الموكل بها. وأميل الى الكلام على رغبة محض أو خالصة للدلالة على حالنا وتناهينا بما نحن كائنات ناطقة، أو على رغبة مرسلة من اي قيد في صدد رغبة الحب.

وكان جاك لاكان تساءل عما يجعل الرغبة حباً، وأقر بأن الوقائع لا تستوفي تفسير الأمر. فهذا الانتقال (او الانقلاب) ليس واقعة موضوعية. وهذه الحال تحول دون تناول الخطوة التي تخطوها الرغبة، وتتجاوزها بخطوها نفسها او ذاتها، وتبلغ بها مرتبة على حدة، وتنشئها إنشاء جديداً وعميقاً. ويولد الحب من صيرورة المرغوب، على ما تراه الرغبة التي تقصده، كائناً جليلاً. وإجلاله مصدره فرادته. فالفريد وحده يليق به الإجلال. وهذا أمثولة الحب الكبيرة. ومصير الحب هو رهن المسافة التي تفصل الرغبة عن الإجلال، ورهن الفرق بين المتميز وبين الفريد. وقول الحبيب لحبيبه:» أنت الكل بالكل» (أو « انت كل شيء») هو كناية عن حمله على الفرادة، وعلى كونه عالماً قائماً بذاته ومستقلاً بها.

والرغبة والإجلال، في اللاتينية، فرعان أو اشتقاقان من اصل واحد. وما هو جليل في الحب ليس كيان الآخر بل فرادته وظهوره على هذا النحو. فيتحول المخصوص الى فرادة لا قرين لها، ولا تشبه غيرها. والحب «رسو» على ضفة ما لا شبيه – له- من غيره، ويبدو لي فريداً. وليس السبب في فرادته صفة تخصه، أو مركب صفات هوامية أقر له بها. فهو فريد لأن رغبتي من دونه، غير مرغوب فيها لنفسها وذاتها. وهذا ما يدعوني الى حبه على هذا النحو.

والحب، على الدوام، اصطفاء. وهو يصطفي أولاً الرغبة الأخرى، ثم يرفعها الى مرتبة الفرادة المطلقة. وليس الاعتبار أو الإجلال الغرامي غير تمام الرغبة، على وجهها الخالص أو المحض، وبلوغ الرغبة غايتها المضمرة. والزمن هو قطب رحى موقف الحب. وذلك ان الحب يحمل الرغبة التي ولدته على افق لا يحده حد، ويمثل الحبيبان بين يدي أبد من صنف خاص، لا يشبه تعليق الزمن ولا ديمومته المرسلة لا إلى نهاية. فهو، على قول ألفريد جارّي، أبد موسَّع أو منبسط، اي ابد انبساط وتوسعة. ويحضر الحبيبُ حبيبته بين يدي هذا الأبد، وهو توسعة ما يختبرانه هنا والآن الى لا غاية ولا نهاية. وهذا الحال هو تعليل ان معيار الحب أو ميزانه ليس «أبداً» («أحبك ابداً») بل «الى أبد الآبدين».

وعلى هذا ينهض الزوجان (طرفا «الزواج»)، إذا انعقد لهما عقد. فـ «زواجهما» أو عقدهما هو وليد الحب الذي يتولى الحفاظ على فرادة الآخر، وهي سمة فارقة للاعتبار (الإجلال) الغرامي. و «الزواج» هو ثمرة ابتكار طرف ثالث، وهذا الطرف يكاد يكون في مثابة ولادة شخص ثالث. وهو ليس جمع فردين، بل ثمرة الانتقال من الرغبة الى الإجلال (الاعتبار). وهو حارس وقوف الرغبة في موقف الحب، وراعي هذا الوقوف باسم الإجلال الغرامي الذي تصدر عنه الرغبة. ووجود «الزواج»، لا ينجم عن الدوام او عن الشراكة. فهو «تجسيد» ما أنجزته الرغبة حين تخطت نفسها وتجاوزتها. والشعور بالمسؤولية الذي يولد من الحب ليس موضوعه الآخر بل رعاية الفرادة التي تعقد بين الحبيبين وليس ثمة ما يضمن القيام بها.

والمكاشفة بالحب هي إقرار بالدَّين الذي يرتبه الاعتراف بكرم رغبة الحبيب. وتتستر المكاشفة على هذا الإقرار، ولكنها، جُهر بها ام لم يجهر، ملزمة باحتساب زمن الرغبة. فالوعد الذي تعده قد لا يسعها الوفاء به. ويقضي هذا بالتمسك بالفرق بين «أبداً» وبين «الى ابد الآبدين». وقولي «اعتقد بأنني لا اعرف نفسي منذ أحبيتك»، ينبغي ان أتمه بإضافة: «… ومنذ احببتني». فالحب يغير ما بنفس المحبوب على نحو ما يغير ما بنفس المحب. فنحن كلنا مختلفون ولكننا لسنا فريدين، ولا يبلغ واحدنا الفرادة إلا من طريق الحب ونعمته. والرغبة تقصد، سراً، بلوغ هذا الحال. وهذا ما يحملنا على رمي انفسنا في هذه اللجة.

* فيلسوف، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 22-23/10/2016، إعداد منال نحاس.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى