لماذا لا نمتلك «أرشيفنا»؟/ نارت عبدالكريم
ما أشرنا إليه آنفاً لا يغدو أنْ يكون مُجرَّد تلميح، بل ربَّما هو إحالة، كما الكِنَايَة في اللغة، وسؤال النفعيَّة الذي يُلح علينا ويُطاردنا، في مستويات عدة، هو أيضاً بحاجة الى إجابة، ولكن أيُّ المستويات أولى بالتوقفِ عنده؟ فالتظاهرُ بعدمِ المعرفة يَستَوجِبُ بحثنا عن مبرراتهِ العَمَليَّة، فلولا وجود مصلحة ما، ما كنَّا التزمنا به كآليَّة دفاعٍ متينة. وذلك يُذكرنا برواية هرمان هسه «لعبة الكُريات الزجاجيَّة» حيث الخلودُ الذي لا تشوبه شائبة، فالأجسادُ مجرد قمصان لذات الروح السَرمَديَّة. ثمَّ ألاَ يجوز للممثل الواحد لعب أدوارٍ متعددة ومختلفة، أوليس هذا هو حالنا في الواقع المُعاش؟
لا ريب في أنَّها صياغةٌ غامضةٌ ومُعقدةٌ لقولٍ كان من المفترض أنْ يكون أبسط من ذلك بكثير، فهل (الأب/الإله) الأول هو الممثل الوحيد وما نحن إلا مجرد شخصيات على خشبة مسرح؟ أمْ ماذا؟ أليس الواحد هو أُسُّ الأعداد؟ وماذا تعني إشارة اللامتناهي في الرياضيات؟
وحيث إنَّ المستقبل لا يتوقف على مدى فهمنا لما يحدث الآن، أي على مبدأ تفسير الماء بالماء، ولا على ما حدثَ في الماضي القريب، بل على مدى فهمنا واستيعابنا وتمثُّلنا لما حدثَ في ذلك الزمن السحيق، في تلك اللحظة التأْسِيسية، زمن التأسيس الأول، ذلك الحَدَث الذي تمَّ نقشه في الطبقة الأعمق من الأرشيف، أرشيف ما قبل اختراع الكتابة. وهنا يَكمُن اللغزُ المُحير، وجَذْرُ المُعضلة، حيث يواجهنا سؤالٌ جوهريٌّ، على رغم أنَّه قد يفتح باب الهلع بوجهنا إلا أنَّ مصيرنا ومستقبلنا متوقفان عليه. ففي أي موضع وعلى أي «سطح» نَحتنا ذلك الأرشيف قبل اختراع الكتابة وحتى قبل اكتشافنا الرسم على جدران الكهوف، وما هي الطريقة التي تمكّننا من استعادته واستيعابه بدلاً من كبته أو تجاهلة في أحسن الأحوال؟
في عَملهِ المُعنوَن «حمى الأرشيف الفرويدي»، يشير دريدا الى مواضع الأرشيف المختلفة، الحية منها والميتة، والى دور السلطة السياسيَّة بالسيطرة على الأرشيف وتأويله على هواها: «ما من سلطة سياسيَّة من دون سيطرة على الأرشيف، وفي المقابل فإنَّ ثغرات الديموقراطية يمكن قياسها بطرق عدة عنوانها الأرشيفات المحظورة». فعن أي سلطةٍ يتحدثُ جاك دريدا، وما هي تلك الأرشيفات المَحْظورة؟
* كاتب سوري
الحياة