لماذا يفشل الإسلام السياسي؟/ حمّود حمّود
الفشل الذي يتكبده الإسلاميون اليوم هائل وتراجيدي: فلا الدولة الإسلامية قد تحققت بعد طول انتظار وبحث؛ ولا الـمدّ الإخواني، الذي اكتسح شمال أفريقيا، قد أثبـت ولو قليلاً من القوة أمام الرياح العربية التأزمية نفـسـها التي أصـعدته؛ ولا حتى أيديـولوجـية الإسـلام السياسي، التي قامت جوهرياً جراء خلف تاريخي، قد تحـكمت بصعود الأخوان إلى سدة السلطة أو حتى برهنت على صوابية دعـواها أمام ثقل التاريخ (حيث فشلوا فشلاً ذريعاً في تجسيد وترجمة أقلّ ما تحمله الأيديولوجية الإسلاموية المخيالية على أرض الواقع، الأمر الذي أدّى، وما زال، إلـى «تعـرية الإسـلاميين» منْ أيّ زيٍّ أيـديولوجي)…
لكنْ، إذا كان من المبكّر الحكم أنّ الإسلام السياسي قد لفظ أنفاسه الأخيرة على صعيد الصراع على السلطة في أكثر من بلد عربي في ظل الفرص الكثيرة التي قدمها «ربيع العرب» للإسلاميين، فإنّ هذا ليس حاله إذا ما أُخذت الصورة بمستواها الأعمّ والأعمق- أي صراعهم الأساسي والوجودي في محاولة إثبات ذاتهم، إسلاموياً، أمام الغرب وحداثته. فهم من هذه الناحية، ومنذ بدء تشكّل كياناتهم، استمروا في تسجيل فشلهم، المرة تلو الأخرى. لا بل إنّ أيديولوجياتهم لم ترتق حتى إلى مستوى الجدل مع كثير من الأيديولوجيات والنظم السياسية الغربية التي أنتجها القرن العشرون، حتى ولو كانت تحمل ركائز التوتاليتارية (على رغم تقاطع الإسلاميين معها في اتجاهات متعددة). وهذا يعود بنحو أساس إلى الطبيعة الماقبلية والماضوية التي تُسيّر البُنى الهيكلية لأيديولوجية الإسلام السياسي، بعكس معظم الأيديولوجيات الأخرى التي انطلقت من الوقائع التي فُرضت في عالم الغرب.
هذه النقطة هي ما كانت تضع الإسلاميين، أساساً، على حافة التاريخ؛ حيث لم يُشكّلوا في يوم ما جزءاً في صناعته، الأمر الذي كان يجبرهم دوماً على الانتقام منه، وفي أحيان الالتفاف عليه، أكثر منه استيعاب تحدياته واستحقاقاته. فما ليس ممكناً يريده الإسلاميون ممكناً؛ وما ليـس تاريـخيـاً يريـدون تسييره على عجلة التاريخ، وإنْ بـشكل مـقلوب؛ وما هو مرسوم، مخيالياً، في فضاء الثيولوجيا يريدون تفصيله وفق «قواطع دول» لم ولن تنوجد…الخ. إنه بدل أنْ يواجه الإسلاميون التحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن الأسئلة الجديدة التي طرحها «ربيع العرب»، وما أكثرها، راحوا يكررون نفس المقولات الفارغة إلا من الخيال والتحليق بعيداً، وذلك من خلال التأكيد على وجوب جعل الإسلام، أيديولوجياً، لا مقاساً لشرعية الدولة فحسب، بل اختصار الإسلام كله بهم وحدهم، على رغم اختلاف الشروط العربية من بلد إلى آخر.
وبالفعل، إذا مثّل حدث «الربيع» الغصن الذهبي لهم للتسلّق على أكتاف الشارع للوصول إلى السلطة، وقد نجح بعضهم، مستفيدين إلى الأقصى من ميراث المظلومية الذي طبع سلوكهم، من جهة، وإلى تركة الخراب التي جسدها خصومهم، بل أشقاؤهم، من المستبدين العرب من جهة ثانية، إلا أنّ الربيع في الوقت نفسه قد وضعهم أمام اختبار تاريخي فشلوا حتى في التعاطي معه لأكثر من سنة، كما حدث مع إخوان مصر. هكذا، فبدل النظر إلى هذا الحدث كفرصة للاندماج في العالم الحداثي ومنافسة الديموقراطيات الكبرى على أرضـية إعادة قراءة الـذات وتقـديـم فهـم تاريخي جديد للتراث الإسلامي، وفق ما قدمته النخب الاستشراقية المعرفية، فضلاً عن حلّ إشكال علاقة الدين بالسياسة وجدل هذا مع إشكال فهم نظيمة الدولة…الخ، راحوا يعاودون البرهنة على أصالة الأصولية عندهم، وكمْ أنّ الإخوان سيبقون «إخواناً».
لكنّ السؤال الذي ربما يُطرح هنا: هل قال الإسلاميون اليوم كلمتهم الأخيرة؟ في الواقع، إنّ الإسلاميين ليس لديهم كلمة بداية حتى تكون لهم كلمة أخيرة. إنهم يعتاشون على التكرار الدوغمائي والستاتيكي الذي يعتمد أساساً على التصفيق الشعبوي وعلى استثارة الغرائز العاطفية والنفسية لجماهيرهم. هكذا، فمقولتهم الأولى تساوي الأخيرة، أو بالأحرى كل مقولاتهم (كما هي حال الكلمة و «الثورة» عند السيد عفلق البعث والتي هي «حالة خالدة لا تتبدل. فالثورة قبل ألف سنة وقبل ألفي سنة وقبل خمسة آلاف سنة، والآن وبعد ألوف السنين: الثورة واحدة…»!). ذاك أنّ كلمتهم لا تنبع وفق ما يمليه عليهم التاريخ، بمقدار ما تشدّهم، عمقاً، باثولوجيا تطويع عنق التاريخ بما يتلاءم وحجم شهوتهم إلى السلطة. فمثلاً، إنّ القارئ لبعض نصوص قطب أو الخميني لن يجد اختلافاً يُذكر إذا ما قرأ اليوم نصاً يكتبه راشد الغنوشي (انظر له مثلاً «مدى مصداق دعوى فشل الإسلام السياسي؟»، (الجزيرة نت، 24 تشرين الأول/أكتوبر، 2013)، وهو نص يمتاز بالشعبوية الاعتذارية إلى درجة التأسي عليه.
ربما من المؤسف حقاً بعدما كل ما جرى للإسلاميين من فشل على كل الأصعدة، قراءة بعضهم وهو يؤكد على صوابية دعاويهم الهوائية أنهم هم بكفة، بينما العالم الآخر بكفة أخرى. ماذا ينتظر الإسلاميون أكثر مما قدمه «الربيع» حتى يُثَبت لهم: كم أنهم هوائيون أكثر من عدمية الصحراء!؟ ماذا ينتظر الإسلاميون في البرهنة على فشل أدلوجاتهم ومخياليتها أكثر مما أثبتوه هم لأنفسهم بكونهم لم يصعدوا إلى السلطة من بوابة الإيديولوجية (الإسلام السياسي)، بل من بوابة الصراع السلطة، حيث يعاودون التساقط اليوم منها؟
حقيقةً، إنّ معظم الأديان التي «عمّمت» أديانها في مجال السياسة (وبخاصة السماوية منها، كالمسيحية واليهودية)، قد أخضعت لاهوتها للعلمنة التاريخية، إنْ بشكل أو بآخر، هذا باستثناء الإسلاميين الذين يساوي فيهم جوهر سيد قطب جوهرَ الغنوشي (والاثنان يؤكدان على شرعية «الآداب السلطانية» اليوم) دون أدنى حسّ بالتطور التاريخي الذي فرضته الحداثة وريضنتها للعالم بعد أنْ نزعت السحر عنه، كما أفاد ماكس فيبر. لا بل من المؤسف أكثر أنه بدل معاودة قراءة فشلهم أمام أسئلة الحداثة، اختصارها فقط بـ «حداثة الدبابات» والعسكر كما يُلمع الغنوشي متذاكياً، ومعه كثير من المتأسلمين السوريين الذين يشاركونه المنطلقات الفكرية التأسيسية. لكنْ أنْ تقرأ الحداثة بشروطها الغربية وأنْ تُصحّح العلاقة مع الغرب، فهذا ما يعفي الإسلاميون والمتأسلمون أنفسهم من الانخراط به، فيهاجمون الغرب، وهم الفاشلون في كل صغيرة وكبيرة أمامه.
الحياة