لم يعد سوى الحرب الشعبية طريقا لتحرير سورية
د. بشير موسى نافع
لا الشعب السوري، ولا قيادات قوى المعارضة، التقليدية منها أو الجديدة، ولا القوى العربية والإقليمية التي ساندت وتساند حركة الشعب، أراد أن تتطور أوضاع سورية إلى الحرب. لشهور طوال، حتى باعتراف متأخر من الرئيس الأسد، اقتصرت الحركة الشعبية السورية على تظاهرات سلمية، أكدت، مراراً وتكراراً، على سلميتها في الهتافات التي رفعتها. استخدم النظام القوة المسلحة منذ الأسبوع الأول للحراك الشعبي؛ وحاولت أجهزته تسويغ الاستخدام الفج والبشع للقوة بدعايات ساذجة، مثل انتشار جماعات إرهابية، لم يصدقها حتى أنصار النظام. ومنذ نهاية آذار/مارس 2011، بعد أقل من أسبوعين من المظاهرات، أصدرت الأوامر بانتشار الجيش في كافة أنحاء البلاد. ولكن الشعب صمم على سلمية ثورته، حتى وهي تصل إلى القرى والبلدات المعروفة باحتفاظ أهلها التقليدي للسلاح. لم يسجل وجود لمسلح في تظاهرات السوريين، ولمسلح واحد فقط على الأرجح، حتى الأسبوع الثالث من آب/أغسطس من العام الماضي، أي بعد مرور أكثر من أربعة شهور على اندلاع الثورة. منذ صيف العام الماضي، وقد أوغلت أجهزة النظام الأمنية، وحدات الجيش الموالية، وعصابات الشبيحة، في دماء السوريين، بدأت الانشقاقات الأولى عن الجيش ولجأت أعداد متزايدة من الأهالي إلى السلاح.
مع نهاية 2011، وقد ازدادت أعداد الضحايا بمعدلات كبيرة، وأصبح واضحاً أن النظام لم يكن جاداً في طرق أبواب التفاوض مع قوى المعارضة، ارتفعت أصوات عسكريين منشقين وسياسيين مجربين تقول بأن هذا النظام لن يذهب بغير القوة. بعضهم، مثل ضباط الوحدات الأولى للجيش الحر، نادى بتسليح واسع النطاق للعسكريين المنشقين وأفراد الشعب، وآخرون دعوا إلى تدخل عسكري دولي، تصوروا أنه سيساعد على تجنيب البلاد ويلات حرب دموية وطويلة. كانت آلة النظام العسكرية، منذ نهاية تموز/يوليو، الذي وافق بداية شهر الصوم، تقوم بحملات اقتحام دموية، الواحدة منها تلو الأخرى، للمدن والبلدات الثائرة؛ بينما قيادة النظام تتصرف وكأن لا شيء يستدعي القلق يحدث في سورية؛ والسوريون ينظرون باستغراب بالغ إلى التباين الفادح بين إجراءات الإصلاح التي يتخذها النظام وما يجري في بلادهم فعلاً. ولكن تراكم الشواهد على عنف النظام وهمجيته، على افتقاده لأي شعور بالمسؤولية تجاه شعبه والعالم، لم يغير كثيراً في توكيد أغلبية السوريين والعرب على النهج السلمي للثورة. لم يتقدم طرف لتسليح وحدات الجيش الحر، التي أخذت، ببسالة منقطعة النظير، تتشكل في أنحاء البلاد للوقوف أمام بربرية قوات النظام. وحتى المجلس الوطني، الإطار الأبرز لقوى المعارضة، الذي كان تشكل في تشرين أول/اكتوبر، امتنع بصلابة عن طلب التدخل الدولي، وتردد طويلاً في إعلان دعمه لفكرة الجيش الحر.
كان الجميع، من سوريين وعرب، وبالرغم من أرقام الضحايا المتصاعدة يومياً، يدرك ما تعنيه سورية في الخارطة الجيواستراتيجية العربية وتوازنات المشرق، ويدرك ما تعنيه الحرب الشاملة وعواقبها. تحتاج سورية، أكثر من أي بلد عربي آخر، الحفاظ على مقدراتها العسكرية، تحتاج أن تتجنب سفك الدماء بين عناصر شعبها المتنوعة، وأن ينجز فيها هدف التغيير السياسي بأقل قدر ممكن من اختلال قواعد الدولة. لم يكن ثمة وهم حول التماهي بالغ الضرر بين جهاز الدولة ونظام الحكم، والخراب الذي أوقعته عقود من الاستبداد في مؤسسات الدولة السورية، المدنية والعسكرية على السواء، وضرورة أن يتعهد السوريون مشروع إصلاح عميق وواسع للدولة. ولكن الأمل كان في أن تنجح سورية، كما نجحت تونس ومصر، في تحقيق الانتقال إلى نظام حر وديمقراطي بأقل خسائر ممكنة للشعب والدولة، وأن تبدأ عملية إصلاح تدريجية وهادئة بعد ذلك. ولكن الأمور لم تسر كما تمنى كثيرون، وبعد مرور أكثر من ستة عشر شهراً على انطلاق الثورة، لم يعد من بد من الاعتراف بأن هذا النظام لن يذهب بغير قوة قاهرة، بغير حرب شعبية وشاملة لتحرير سورية من الاستبداد والعنف وسيطرة القلة. اختار النظام من البداية طريق الحرب على الشعب، ولا يبدو أنه على استعداد للتراجع أن التنحي بدون حرب مقابلة.
ثمة عدد من الأسباب التي تضع الثورة السورية اليوم، والعرب جميعاً، أمام هذا المنعطف. يتعلق الأول منها بالنظام نفسه، وبالسياسات التي يلتزمها، بدون أن يحيد عنها بوصة واحدة منذ اندلاع الثورة. كان هدف النظام الأول والأخير المحافظة على بقائه وعلى سيطرته وتحكمه، مهما بلغت التكاليف؛ وقد استخدم آلة العنف الرسمية، الأمنية والعسكرية، ونشرت على نطاق واسع منذ أحداث درعا في آذار/مارس من العام الماضي، وبلا تحفظ أو اكتراث بمعارضة قيادات في الجيش السوري وفي أعلى هرم الحكم. ولأن البقاء واستعادة السيطرة كان هو الهدف، فقد كانت الإصلاحات التي تعهدها النظام، بما في ذلك الدستور الجديد، شكلية إلى حد كبير، ولا تمس سلطات الرئيس وهمينته على شؤون الدولة والحكم. ولم تختلف العروض التي مررها حلفاء النظام الإقليميون، كإيران، مثلاً، كثيراً؛ كلها استندت إلى تصور واحد، يؤسس لتعددية سياسية، تجعل التدافع السياسي مقصوراً على منصب رئاسة الحكومة، بينما يحتفظ الرئيس، الذي هو الرئيس الحالي نفسه، بكافة سلطاته العسكرية والأمنية. تمحورت سياسة النظام، باختصار، حول خيارين لا ثالث لهما: إما القبول باستمرار جوهر النظام على ما هو عليه، أو الموت.
ولم يزدد عنف النظام في مواجهة الشعب وحركته طوال شهور الثورة إلا عنفاً، ليس فقط لأن حركة الثورة أصبحت أكثر اتساعاً وتصميماً، ولا لأن مقاومة الجيش الحر لآلته العسكرية أصبحت أكثر جدية، ولكن أيضاً لأن بنية النظام أخذت في الانهيار، والانهيار في صورة تمس أسس الشرعية الزائفة والهشة التي استند إليها طوال عقود. هذا نظام طائفي بالتأكيد، ليس لأنه يخدم مصالح الطائفة العلوية، بل لأنه يستخدم الطائفة للحفاظ على وجوده واستمراره، ولأنه صنع لدى قطاع واسع من أبناء هذه الطائفة قناعة مزورة بأن وجودها ومصيرها مرتبط بوجوده ومصيره. ولكنه نظام طائفي بصورة معقدة، وليس بفجاجة أنظمة طائفية أخرى في المشرق. وليس ثمة شك في أن واحدة من أبرز إنجازات هذا النظام أنه اعتمد، خارجياً، سياسة قومية عربية، وداخلياً، سياسة علمنة ظاهرية، من جهة، وتحالفات مع أعداد ملموسة من السوريين السنة، سواء في قيادة حزب البعث، في أجهزة الدولة، في المؤسستين العسكرية والأمنية، أو في دوائر المال والأعمال، لإخفاء طائفيته وثلم حدة هذه الطائفية ووقعها على المجتمع السوري. ما حدث خلال أشهر الثورة أن هذه السياسات أخذت في الانهيار، الواحدة منها تلو الأخرى. انتهى التوجه القومي العربي إلى تحالفات إقليمية، تحمل شبهات طائفية؛ وتحت قصف الوحدات المدرعة التي توقع الدمار والموت في أحياء المدن والبلدات السورية، لم يعد هناك لادعاءات العملنة من معنى.
ولكن كارثة النظام الأكبر كانت في حركة الانشقاق متصاعدة الوتيرة، في أوساط رجال الأعمال والصناعة وفي الجيش. ولأن الثورة السورية، أردنا أم لم نرد، هي في خارطتها الأغلب ثورة المدن والأحياء والبلدات السنية، فإن الأغلبية العظمى من الانشقاقات تقع في القشرة السنية التي ساهم وجودها في دائرة النظام طوال عقود في تعزيز صورته القومية والعلمانية. كما لوح من الثلج، يقول أحد الزملاء من دارسي سورية الحديثة، تنهار طبقات شرعية النظام، الواحدة تلو الأخرى. وبتعري دائرة النظام الصغرى وانكشاف صورتها الأصلية، تصبح أكثر عنفاً ووحشية؛ ولم يعد يستبعد أن تذهب إلى خيارات انقسامية مجنونة.
من جهة أخرى، كان ثمة أمل، سواء في الأوساط الغربية والعربية أو أوساط المعارضة السورية، في إحداث تغيير ملموس في الموقف الروسي من المسألة السورية، وأن تضطر موسكو أخيراً للانحياز إلى الشعب السوري والمحافظة على علاقاتها بالشعب والقوى السياسية الممثلة له. ولكن ذلك لم يتحقق. روسيا، هي بالطبع، القوة الأهم والأبرز في دائرة حلفاء النظام، التي تضيق بصورة حثيثة. بدون روسيا، التي تعتبر مصدر التسليح الأول للنظام، والتي تمتلك من الدور ما يمكنها من تعطيل المنظمات الدولية من اتخاذ إجراءات مناسبة ضد النظام وأجهزته، فإن مساهمة حلفاء آخرين، مثل إيران، ما كانت ستستطيع إطالة عمر النظام طوال إلى هذا الوقت. الصين، من جهة أخرى، ليس العامل الرئيسي في التدافع الدولي حول سورية. توالت الجهود التي بذلتها دول عربية وغربية باتجاه روسيا، وجهود أخرى من قوى المعارضة السورية، طوال العام الماضي تقريباً. ولكن الموقف الروسي، لأسباب تتعلق بمخاوف من متغيرات في نظام العلاقات الدولية، أو بطموحات إثبات الذات في وقت لم يعد لروسيا من تأثير كبير على الشأن العالمي، أو لخلافات مع الولايات المتحدة حول مناطق النفوذ والخارج القريب لروسيا، لم يتغير بأي درجة ملموسة. لم تزل السياسة الروسية من القرارات الدولية حول سورية على ما هي، وما يزال السلاح الروسي يرسل إلى دمشق. وربما كانت زيارة وفد المجلس الوطني لموسكو مؤخراً، آخر الجهود التي يجب أن تبذل في هذا المجال. بالتزام روسيا دعم وحماية النظام في سورية، أغلق باب التسوية السياسية وتغيير النظام بالتفاوض، وأغلق إلى أمد غير محدود.
الذين ينظرون إلى ما يحدث في سورية باعتباره قدراً إلهياً، والذي يرونه مأساة إنسانية، أو الذين يعتبرونه حقاً شرعياً للشعب السوري في تغيير نظام الحكم وتحرير البلاد من الاستبداد والسلطة الفاشية، عليهم جميعاً أن يصبوا جهودهم من أجل تعزيز القوة المسلحة للشعب ومقاومته. والقوى السياسية السورية المعارضة، التي بذلت جهوداً لا يمكن التقليل من أهميتها طوال الأشهر الماضية من أجل تمثيل الشعب السوري وتعظيم الدعم السياسي العربي والدولي لقضيته، عليها أن تراجع استراتيجيات عملها منذ اليوم، وتكرس عملها من أجل تعظيم مقدرات الشعب العسكرية. لن يحسم الصراع على مستقبل سورية وشعبها بدون حرب. وفقط عندما توشك هذه الحرب على إطاحة النظام، سيصبح للحراك السياسي معنى ما.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي