لم يُطرَد الشعراء من المدينة بعد: أصوات شعرية جديدة 1 ـ لبنان/ اسكندر حبش
مضى أكثر من ألفي سنة، حين أعلن الفيلسوف الإغريقي في كتابه الشهير عدم صلاحية الشعراء للعيش داخل أسوار «الجمهورية». بيد أن هذه النيّة لم تتحقق، أو لم تلقَ أمنيته آذاناً صاغية. قد يكون مردّ ذلك سببا بسيطا: لم يتوقف الشعراء عن التغني بكلّ شيء، بدءاً بأنفسهم وصولاً إلى الأمكنة التي يحيون فيها. لهذا ربما لم يستطع أحد طردهم في واقع الأمر، إذ كانوا دائماً هنا، وفي مختلف الظروف وفي أحلكها بالطبع. ما زالوا هنا، يستمرون بإضافة راحة مشتهاة عليها. كلّ شيء محتمل في هذه المسارات التي يقتطعونها ويخطّون لها الدروب الكثيرة، الصياغات الكثيرة، والمخيلات المتعددة.
لهذا لا بدّ من استعادة السؤال: هل مات الشعر مثلما يرى كثيرون؟ يبدو السؤال أحياناً أشبه بـ «نكتة سمجة» في ما لو نظرنا إلى عدد الشعراء الذين يبرزون كلّ فترة، وإلى عدد القصائد التي تُكتب وإلى عدد الدواوين والمجموعات التي تصدر. لا شيء في المشهد – ربما – سوى هذه الكلمات التي تحاول أن تعيد صوغ الكثير من المشهديات، وصوغ الكثير من المفاهيم والذهاب إلى أقاصي الحلم. ليس لأن الشعر هو الحلم، في نهاية الأمر، بل لأنه أحد روافده، بمعنى لولا الشعر لكان شرط الحياة أقسى. هو ـ أي الشعر ـ هذه اللحظة التي لا يمكن لك أن تحدّدها ولا أن تَحدّها بأي شيء. هي هذه اللحظة المتفلتة من كلّ منطق نحاول أن نفرضه عليه.
لكننّا هنا في هذا «الملف» ـ الذي يبدأ «السفير الثقافي» في نشره، بدءاً من هذا العدد ـ لا نحاول أن نفرض مناخات وحالات ولا أن نقول إن هذا الشعر هو كلّ شيء، بل هو محاولة لتقديم بعض الأصوات الجديدة، الشعرية، التي بدأت تأخذ مكانتها في المشهد. أصوات، لا تنتمي إلى لبنان فقط، وإن كنّا بدأنا بالشعر اللبناني (في هذه الحلقة الأولى)، إذ ثمة حلقات مقبلة، تحاول بدورها أن تغطي جزءاً من هذه الأصوات التي تولد في بلدان عربية عدة، أي ثمة أصوات من بلدان عربية أخرى ستأتي لنسمع بوحها وأحلامها وتفاصيلها ومناخاتها.
هي ـ مرّة جديدة ـ محاولة لتقريب هذه اللحظة، من «أبدية» نعتقد دوماً أن بالإمكان تملكها عبر الشعر. ربما لأننا لا نملك اليوم سوى أن نُصغي إلى الكلمة طاردين أصوات الحروب والمذابح والمجازر التي تلفنا من كلّ صوب. لسنا واهمين لنقول إن الشعر سيوقف ذلك كله، لكن من الجميل أيضاً محاولة تناسي «الخارج» لنغرق في هذا «الداخل».
كلمة أخيرة: بالتأكيد إن هذا المشهد سيبدو ناقصاً عند كثيرين سيقولون لِمَ لَم نضع هذا الاسم أو ذاك. ليس «فيتو» ضد أحد. وبالتأكيد سنرحّب فيما لو وصلتنا «أصوات لبنانية» جديدة أخرى سنُفرد لها مكاناً بكل محبة في حلقة ثانية. ولِمَ لا.
سلّة الممكنات
ليتني شجرةٌ،
لا أغادر بيتي وراء الأحبة إذ يرحلونْ…
كلّما حفر الناس صدري بأسمائهم،
قلت: لا بأس أن يُجرَحَ العاشقونْ…
ليتني شجرةٌ،
كنت لا أكتب الشعر في الأرض،
أدفن نفسي بها كي أكونْ…
ليتني شجرةٌ،
وطني ضيّقٌ، غير أنّ اعتزازي به،
كلما رفّ قلبٌ لأجلي منحت له وطناً في الغصونْ…
ليتني شجرةٌ،
كي أبرهن أنّ الضياء الذي يتسلل من بين أوراق صدري الى وجهه،
ليس ضوءاً…
ولكنْ عيونْ…
مهدي منصور
فكرة
العصفور يتنزه بسعادة على عمود الكهرباء /إلى أن يصل إلى الحافة /ويدرك وحدته
نسمة صغيرة من الهواء البارد طردها بجناحيه قبل أن تلامس أذني
إمرأة لا تخرج إلا في الشتاء عبرت من تحت نافذتي
أزعجها الشعاع الذي استقرّ على جبينها/ فرّت مجدداً إلى الظل/ الدفء موجع
مرت هذه الفكرة سريعاً في رأسها قبل أن يشتتها صوت الدراجة النارية
صوت الألم يشبه صوت تحطم مكعبات الثلج إثر طرقها بخفة بملعقة صغيرة
هذه الفكرة الأخيرة لم يعرف مَن صاحبها
حنت الجارة في الطابق التاسع رأسها على الدرابزين
تساقط الأسى من شعرها على شرفة الطابق الثامن
كنسته العاملة الأفريقية
وهي تفكر بأطفالها الذين تلفحهم شمس بعيدة
كل ذلك حدث قبل أن أفتح عيني هذا الصباح.
بانة بيضون
نجمة الدانوب
العجوز الروماني سيوران
يقول إنه يعرف تماماً
لماذا يشهق الأطفال تلك الشهقة العظيمة
حين يخرجون من الرحم:
(فلنستمع إليه ولو لمرة وحيدة)
«أريد أن أكون عصفوراً،
وأن تمسد أمي ريشي بريشها كل صباح
وأن تكون لي في كل ليل أغنية»
ـ لكن سريرك اقرب للارض من الشجرة
وعيناك جمرتان مثل تلك القطة في الزاوية
ولك ظل ايضاً والعصافير تترك الظلال في أعشاشها حين تطير،
«اريد اذن أن اكون قطة،
وأن أغفو مدللة قرب مدفئة
أشكل العالم من الدخان اذا تعثر رصفه بالحجارة»،
ـ لكن أظافرك اطول مما ينبغي
وتحدث ندوباً في القلب والبشرة
اكثر مما تتركه القطط الشرسة،
ـ لا العصفور ولا القطة؟
ـ اختر بين الغول والذئب والعنقاء،
والطيار الأشقر فوق هيروشيما
ـ أيها العجوز الروماني،
أريد إذن
أن أشهق بالبكاء مثل نجمة فوق الدانوب.
محمد ناصر الدين
حب
لو أنك تركض نحو الشارع
تترك يدي وتستقل الباص وحدك
لو أنك تنسى بيتك
وسريرك ووجهي
وتسبقني نحو الإمحاء
بكبسة زر يزول الألم
بقرار حاسم تفرغ ذاكرتك.
اود ان لا اكون شيئاً، او احدا
ألتوي مع الرياح،
اسكن فيها واصادق الغبار والكائنات المثقوبة
سأكون لهم اما بلا عظام
او بالوناً بلا حبل متدل
سأنتظر الشمس
لتذيب بقايا الأمل
وتيبس الخبز والحدائق
حينها ستكفيني الفتافيت
وتلهمني صورة لمفقود معلقة على حائط الرصيف
ويسعدني مشهد الباصات الذاهبة نحو البعيد.
لوركا سبيتي
نقتات من هذا القلب
أستيقظ
أنظر الى السقف
لا تزال شياطيني وملائكتي
سارحة فوقي
أفتح قلبي لها
فتدخل.
أغلق وراء تزاحمها
وأعلق سمعي على مسكة الباب.
يسأل أحد الشياطين: هل من جديد اليوم؟
يجيبه آخر: الملل ذاته
يصرخ الملاك: بحسب علوم الفيزياء
لا وجود للماضي والمستقبل،
لذا لا شيء اسمه جديد، هي دائرة واحدة
الشيطان: دعنا من فلسفاتك، الست بجائع؟
– جداً
– إذاً تعال نقتتْ من هذا القلب!
ويبدأون وجبتهم الصباحية.
مازن حيدر
ولا أنتَ أتيت
اليدُ التي أيقظتني اليوم
التي كانت تصبُّ المطرَ في الخارج
وبين قطرةٍ وأخرى
تخطفُ النعاسَ وتطعنُ الوسائد،
كأنّها وهبتني أيضًا
صوتًا رقيقًا
أناديكَ به..
وتسمعُني.
كلُّ ما أُريدُهُ الآن/ أن أحلّقَ كعصفورٍ نحيل/ فوقَ كتفَيْكَ/ وأن تراني وتبتسمَ قليلًا،/ وتحزنَ،/ وأن ترأفَ بهُزالي/ وتمدَّ لي يدَك./ أصابعُك هذه/ تُشبِهُ غصنًا وارفًا كان يؤويني/ قبل أن تُسقِطَ الحربُ/ الأشجار.
سألتُ البابَ عنك
البابُ سألَ الطريق
الطريقُ سألت امرأةً
تنتظرُ هيَ الأخرى
قالت لم يأتِ أحدٌ اليومَ
الذين انتظروا طويلًا
تركوا رسائلَهم معي
ورحلوا
حارسةُ الرسائل قالت للطريق
الطريقُ أخبرتِ الباب
الباب الذي اعتادَ أن لا يطرقَه أحد
الطريق طويل،/ لا زهرةٌ نبتت/ لا شجرةٌ لا طيرٌ لا نجمةٌ لا غيمةٌ لا أغنية/ ولا أنت أتيت.
غيدا اليمن
المهرج
شارلي شابلن
صعلوك
تدثر بآلات الزمن الحديثة
لم يمتلك حدساً بالألوان
افتعل حركات
حرّرته من أصواتنا
سجنته في ثياب داكنة
عصاه رسخت الوعي الزائد
تمثال غارت ملامحه
في رقع بنطاله العبثي
حديقة.. حسناء وشرطي
كل ما يحتاجه شابلن
ليقلد بغرائزه مساوئ الحياة.
رنيم ضاهر
الساعة
عندما تحين ساعتي،
ويأتي الموت ليأخذني،
سأتسلّق ظهره،
أجلس على كتفيه،
أحبس نفسي الأخير في صدري،
وأقول:
أعبر بي أيها الحمّال،
خذني الى هناك،
فقد رأيت كل شيء هنا…
أكلت من الصحن نفسه مع الندم،
وعندما جعنا ولم نجد ما يؤكل،
تبادلنا أصابعنا…
شربت القهوة مع الوحدة،
والسكّر الوحيد الذي أضفته
كان من ذاكرتي/ وأحببت مذاقها المرّ…/ أبحرت في كل الكوابيس/ نجوت من كل الأخطار،/ والغرق الوحيد الذي غرقته/ كان في الواقع
على أبعد نقطة من الشاطئ…
جرّبت الحب
حتّى صرنا لا نفترق،
كصيّاد وبندقية،
ولم تنفذ ذخيرتي يوماً
من كلمات أحبّكِ…
كل العصّافير التي خُيّل لي
أنني قاتلها،
ما زلت أسمع غناءها،
وأعرف اليوم
أين تنام كل ليلة
وعنوان كلّ قفص…
علّمت الخوف اللياقة،/ كيف يطرق الباب قبل أن يدخل،/ وكيف يشكرني/ على الزيارة قبل أن يخرج،/ وكنت بدوري/ أربّت على كتفه/ وأخبره أن أداءه هذه المرّة/ يستحق الإعجاب،/ والثناء والتصفيق…/ خذني جميلاً أيها الحمّال،/ ظلّي كدمي خفيف،/ جيابي فارغة،/ ولا أحمل متاعاً معي،/ حيث أذهب/ لن أحتاج/ سوى لابتسامتي.
باسكال عساف
ليل العالم
منذ كم .. لا يهمُّ
أنت معي الآن هنا أيها الرهيبُ العاتي
أترى أنت أنتَ
ترجع ليلاً حاملاً ميتاً إلى عتباتي
أم خيالي البطيء شبّه لي هذا
كما شُبّهت لذاتيَ.. ذاتي
ثم من ضيف من
وسهرتنا في أي بيت والبيت في الكلماتِ
كلماتٌ متاهة
رشّ فيها ثملٌ حفنةً من الطرقاتِ
لو مسحنا عنها خطانا قليلا
لغرقنا في دفتر الظلماتِ
كم تذاكى الأسلاف حين تلافوا
أن يعيروا انتباههم للحياةِ
كل هذا كينونة!
وعليها وضعوا حارساً من الكائناتِ!!
ثم ظنوا الأشياء/ موجودة تلعب دور المثالِ والآياتِ/ فاتهم والأشياء/ ترفعها الأسماء / عن خارج بلا بصماتِ/ أنّ لا شيء / خلف مَن شاء / أو من قبل شاءت مشيئة العاداتِ
أي كون أراه حين أعي
أن صفات الأشياء بعض صفاتي
أن ليل التحديق
ضيّق عينيّ
وجوهاً تخافها مرآتي
ليل غودو.. كمية من زمان
بارد في انتظاره ذكرياتي..
قجّة للأفكار رأسي
وأفكاري نقود تعود للأمواتِ
وعلى جانبي
يدي حيوان حارس قرب مصنع الفضلاتِ
وأنا.. لا أدري أنا
ما الذي أفعله وسط هذه الآلاتِ
مشمئزاً مدمّرا
خائفاً مني ومني ومن غريب آتي
صوري في أحلامه حشرات
تتغذى فقط على الحشراتِ
أنا فانٍ .. ولأفترض / بعد دفني .. جثتي ريشة وقبري دواتي/ حينما يا ملاك/ تخرجها.. أي كتاب تخطّه برفاتي../ بعد هذا المسلسل العمر / من كان غدي فيه أضعف الحلقاتِ
ربيع شلهوب
فوبيا
كلَّما وقفتُ على مرتفع، شعرتُ بأن عليَّ أن أقفز، سأطير قليلاً وأتحدَّث مع غيمة مستعجلة تأخّرت عن طفلها المولود حديثاً. أرى ثدييها ينزان حليباً وهي تهرول مسرعة إلى بيتها، ثم أهبط رويداً رويداً وأحرص على أن تلامس أصابع قدمي الأرض بكل خفّة كي لا تنكسر. أمشي إلى بيتي أطرق الباب فتفتح لي جثتي المحطّمة زاعقة في وجهي:
«أتيتِ؟ بسرعة إلى المرآة، أحتاج أن أضع كحلاً قبل أن يأخذوني ويبدو الأمر مستحيلاً بأصابعي الجديدة المعكوفة إلى الخلف من جراء فعلتك، ما به السمّ؟ كان رائعاً لكليوباترا، أتظنين نفسكِ أهمّ من كليوباترا؟ …».
لذلك أرجوكَ، لا تُغرِني ثانيةً بقبلة على الشرفة، لكَ أن ترى كم سيكون الثمن باهظاً.
سمر دياب
السيرك
أقف على مسافة جسد وخاطرتين من النعاس الأخير…
نعم، أريد أن أنام في حضنك، ولكنّ يقظتي سؤال يؤرقني!
لا يخدعنك تثاؤبي، ليس ألا تثاؤب بهلوان في السيرك…
في السيرك قَزمٌ يتعكّزُ على ألفيّ اناه/ أسدٌ قلّمَ أظافِرَهُ/ أفعى ابتلعت سمَّها/ ورامي الخناجر لم يُخطئ قَلبَ حبيبتِهِ/ …الساحرُ بهلوان لم يكتمل حزنُهُ بَعد!/ في السيرك / حينَ اكتشفتُ الخدعَ البصريةَ، أدركتُ أنَّ السلالمَ كلَّها دائرية!
يا نافِثَ النارْ
إنْ حَرَقتَ وَجهَ البَهلَوانْ
سَيَنتَهي العَرضْ
وَيُغادرُ كلُّ هَؤلاءِ الصِّغارْ…
الحيلة:
في السيرك على ارتفاع ستة أمتار،
تفشل عمداً في محاولة القفز الأولى على السلك،
تتمسّك به بيديك في اللحظة ما قبل الانتحار،
تأسر القلوب والأنظار،
تحاول ثانية فتنجح… تخرج بطلاً…
ملاحظة: القرد لا يتحايل!
أتحايل على نفسي، أخادعها/ كطفل يتسلّى باللاشيء / يصنع من المعاني سفناً من ورق وقبعة بهلوان/ يمزّقها قبل أن يلوّنها ويدفنها في التراب… ثم يقنع نفسه بأنه زرع شجرة…
التموضع: أن أكونك/ إعادة التموضع: أن أعود إليّ وأراني فيك…/ أيّها البهلوان، لا تغسل وجهك… اخلعه!
مكرم غصوب
كما حدثَ لآدم
أحبّ أنْ تكونَ هناك
مرآة هائلة
وُجدتْ منذ الأزل
حين مشى الزّمن متقدّماً
خلّفَ ظلّه فيها.
سنعود من حيثُ هبطنا
دون أدنى فكرة
سنتّجه مجدداً
نحو الشجرة الطيبة أو العشبة الضّارة
لكن قدْ يُبدّل الزّمن اتجاهه
هذه المرّة.
باكراً خسرتُ السماء
والمفارقة التي أبحثُ عنها
باتتْ تضاعفُ جهلي
قدْ أرى الجنّة ولا أعرفها
كما حدث لآدم.
عبير خليفة
قصيدة
فتى يركض خلف كرة أرضية،
يركلها ثم يتوارى.
من الشرفة لا أرى سواي،
لا يراني سوى رجال أحبّوني بعمق،
من شرفاتهم التي تطل عليّ وعلى الفتى وعلى الشارع.
إشاعة صغيرة عن أشباح تلهو في ذلك الزقاق القديم،
أدخلتنا جميعاً إلى غرفنا.
لا أحد الآن في الشارع،
بإمكانك أن تأتي،
تركت حياتي مواربة،
نسيت على الشرفة حرباً تدور وكرة أرضية تحترق.
بإمكانك أن تخدع الأشباح بنشيد عن السلام
أو بأغنية عن هذا الليل المرّ
وتأتي.
فيوليت ابو الجلد
قصيدتان لغابة مقفلة
عليك في مكان
أن تتعلّم كيف تصنع الضوء
كما تحضر القهوة
وأن تصغي إلى الغراب
الذي تكرهه
قد يكون مصاباً بالحمى ذاتها
التي تأكلك
عليك في مكان
أن ترى العالم
باليد الأخرى
يوم اخترتَ الصحراء
بديلاً لي
أمطرت
وانتقل البحر معك
أدركت بعد سنوات
أنني أعيش في مدينة بديلة
وبلا بحر
باسكال صوما
صداقة
الشمس التي تلمع في غرفتي، تذكّرني بأصدقاء مرحين، أصدقاء التقيت بهم لمرة واحدة، وعادوا الى بلادهم.
رحلوا، وتركوا صداقتهم، وردة مجففة، معلقة على الحائط… تلمع بين مساء وآخر.
هروب
نظرات الناس حتى المقرّبين منهم غريبة. لا ترسم وجهاً أحلم به. لا أنسجم. أخطّط لأن أصرخ. أتراجع. عاصفة غيّرت اتجاهها. جندي أجّل المعركة.
الألم ثقيل، والسلاح أقل من الوجع، أقل من الوقت.
أهرب.
زهرة مروة
أتلك بيروت؟
بيروت أرصفة تبتلع ريقها بتؤدة
كلما أنفقت السواقي دموع المشردين / في الشارع نفسه كفّ مرآة لسماء غائمة / تجمّع حزناً يزهر في غصن بجناحي طائر سادي/ وفي الشارع أيضاً صنارة تلوك الوقت وعناوين للصحيفة المحلية/تنتشلانني من التحديق بشاعر منشغل بتلميع صورته كما حذائه / بينما يتصوّر سيوران قصيدة ترنو من نافذة مشرعة في الهواء / وفي الشارع نفسه تقلص يداي المسافة بيني وبيني/ إلى أن تصبح مجرد صورة صغيرة في عين مظلي
يسقط يرمي بنفسه إليَّ
من نوافذ معلقة في الهواء إلى برج الحافة
يأمرني بأن أقف حيث أنا
ألتقط أنفاسي دفعة واحدة
ألوح بروحي إلى الفتى الكوبي ساحر الفتيات الذي قال ذات خريف عن بيروت أنت الرعود..
ليندا نصّار
أنا لستُ ذاك
… أنا لستُ ذاك
الّذي خلتُه يومًا
هشّ بما يكفي
ليعبرَني دخان الوقت
هشٌّ
ومهزوم
جُلّ انتصاراتي
حصاد ما تيسّر من صور الخيبات
وجوازُ عبوري
انكساري
أنا المنفيّ
إلى غير ما جهة
أوَ أعجبُ/ كيف ثقلت نفسي/ على نفسي/ فصرت أصمّ أذنيّ/ عن سماعي/ أُهشّم ما تداعى من المرايا/ كي لا أراني/ كائنٌ مُدمّى/ أنقى ما فيَّ التباس/ لي من فداحة وجودي/ حكمة مسخٍ هجينٍ/ لا يُحتَمل/ حتّى لغتي/ صارت أكثر ما يُثير سخطي
لغة بليدة
لا شيء سوى العجز والعَوَز
أنا حقًّا أُعْوِزُني
لكأنّ الصّروف ما شكّلتني يومًا
ما شكّلته الصّروف يوماً ولا حاكت السّنون العجاف
قميص رؤاي
أنا كائن هُلاميّ
لَكَم أُشبههم
في أسوأ نسخة ممكنة
ولا أُشبهني
وبعدُ
أيّها العابر
أنت الّذي لم يَخبرْ شيئًا من لدُنِهِ
تهيّأ
لتنتهي كما ابتدأت
صرخة مكتومة
في حنجرة الشّعر
فليكن لك
في زرقة المعنى
شيئًا من بهاء العدم!
باسل الزين
نعاس
يخفت النعاس
حين تحدّق
في استسلامك السريع
النوم المحمّل
بالعربات الثقيلة
يتحطّم
حين يخرج الجسد
من ثوبه الضيّق
متى تبدأ الشمس
بالنظر إلى مرآتها؟
دعني أقلّد الليل
كي لا أنام
دوني.
نسرين كمال
^ النافذة وظلها ^
النَّافِذَةُ وَظِلُها
يَتَقَاسَمَانِ الضَّوْءَ
وَأَنْتَ تُجَالِسُ أَنَاكَ
كَصَعَالِيكِ العُزْلَةِ
حَانِقًا كَالرِّيحِ
عَلَى اِسْتِقَامَةِ الأَزْهَارِ
لَا تَرَى مِنْ جَوَارِبِكَ المَثْقُوبَة
سِوَى سَمَاوَاتٍ مُمَزَّقَةٍ
أَظَافِراً طَوِيلَةً
وأربعين شَبِيهًا لِلمَوْتِ
فِي كَنَائِسَ لَا تَزَالُ
رِيحُهَا تَقْرَعُ الأَجْرَاس
وَسُجُونهَا تمتلئ بِالأَحْلَامِ
عَينَاكِ أَكْثَرُ ظُلْمَةٍ
مِنْ لَيْلَتك العَرْجَاءَ
وَجْهُكَ الكَئِيبُ مِرْآةٌ مَسْحُورَةٌ
يَتَّمْتُمْ تَعَاوِيذَ الرِّيشِ
ويتحسس مَلْمَسَ أَصَابِعِ الآخَرِينَ
تَحْتَ مَسَامِهَا
يَقْتَرِبُ دَمْعُكَ
مِنْ كَثْرَةِ التَّلْوِيحِ
يَفِرُّ الهَوَاء
سِيّانِ عِنْدَهَا إِنْ فَقَدْتَ
مِفْتَاحُكَ، خَاتِمُهَا أَوْ يَدُكَ
فَجُيُوبُكَ مَدَافِنُ مُؤَقَّتَةٌ
ربيع الأتات
المقتول
هناك على التلة يقف الرجل الأبيض
في العشب وفي الشهب
يلوّح لقتلاه
ويكشف وجه الأرض عن الأرض ويكشف ضلع الأشجار
يسألني
هل تتحرّك أطراف النخل على عينيك
أقول أنا الأعمى
وأنت
حين تقلّب وجهك في الأشجار
أتُراها تضيء؟
قال هناك على الضفة أشجار
تنبت في قبلي
والزهر النابت يحترقُ
وفروع الأوراق بقلبه
تذبل في السنة عن السنة الأخرى
وأشار الى جهة القتلى
قلت لعلك تعرف أسماء القلب وأسماء الأشياء واسمك
توقفت الشمس الحمراء على التلة
كان الرجل يزيح الأيام على يده
يقول أنا مَن يرفع شمس الله لمقتلها/ ويسألني عن اسم النهر/ قلت بأن النهر هناك وأن النهر الآنَ/ سيذهب من بين يديّ/ وأنت/ أتأتي الأنهار إليك لتكمل دورتها؟/ رجل الشهب الآن يدور على الماء / يُمسك بالماء الجارف كالسيل بكفِّه
يوقف دوران الأيامِ
يردي الأيام على راحته
يقول أنا مَن يقلب ضلع الأشجار على الواحات
وإمام القتلى
وإمام الغرقى والتوابين
أتعرف اسمي؟
قلت أنا المقتول
أصبحت الآن بلا أحد
هل عندك مَن يُسقيني الماء؟
حسين ناصر الدين
XV km
في الطريق المقابلة، تماثيلنا الحية، ترتدي ظلالاً غير قابلة للاختفاء، تحملقُ في زاويةٍ ما في محطةٍ مهجورة. عرفنا أنها تحاول هي أيضاً البحث عن بعضها.
لم أتخيّل أنني سأراقبها لدرجة البوليسية، رغم شعوري بالغباء أني ألاحق أصناماً، ربما لإدراكي أن هناك عشرات القتلى يراقبوننا بازدراء واشمئزاز. شعرت أن ملاحقة جسدٍ هلاميٍّ يثيرُ شفقة الحيوانات، كمن في السينما يبحثُ عن قبلةٍ ضائعة في لحظةِ رومانسيّةٍ رديئة، أو كمن يختلس النظر عبر ثقبٍ في جدار غرفته ليرى بنت الجيران تتعرى للهواء.
أرمق نظرةً إلى الخواءِ المتروك بين الطريقين، ما هذا الخواء الذي يصمُّ أذنيَّ بصراخه؟ يقال إن صراخ الموتى لا يسمعه سوى الحيوانات، أتراني أصبحتُ حيواناً دون أن يخبرني الإله بذلك؟
كأني أقف فوق لونِ الحرب وأرى.
بهاء إيعالي
السيد نون
على حافة الرصيف المُبتَل كنتُ أنتظر السيد «نون»،
على ما أعتقد هو كائنٌ من خبز ونيكوتين،
يلقي شالاً أزرق على كتفيه ويرفض أن أناديه باسمي،
يحب الضواحي الباردة، ويكره القُبلة،
السيد «نون» يلاحق موسيقى الشوارع،
يرسل لي بريداً يخبرني بأنني سليطة اللسان،
ثم يشتم البرجوازيين ويبصق على عبيد الاستهلاك،
يعدُني بأنه سيأكلُ دودة الأسئلة من تحت لساني،
ثم يرفض الإمساك بأطراف أظافري.
يمقتُ التفاح ونظرية نيوتن الذكورية،
يُخرِجُ من جيبِ قلبه بعض بزورها،
يلقيها أمامي ويرحل دون أن ينبس بكلمة./ قررت أن أخبئها في درج ثيابي الداخلية،/ ولكنه كان مليئاً بمغامرات سابقة،/ بأعواد البخور، خَرزُ القلادات المفروطة،/ تذاكر سفرٍ مستهلكة، كأس كونياك فارغ،
وبقايا شَعري،
فألقيتها للمتشرّدين الذين يحبهم،
وهجرت ذاك الرصيف.
نور عز الدين
السفير