“لوموند” تكتب من قلب دمشق: تطبيع مع النظام السوري/ محمد المزديوي
في نوعٍ من التطبيع مع النظام السوري، يتماهى بشكل أو بآخر مع مواقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي لم يعد يجعل من رحيل بشار الأسد شرطاً مسبقاً لإيجاد حلّ سلمي، وفي تماهٍ أكبر مع شخصيات فرنسية تواظب على زيارة سورية ولقاء ممثلي النظام، نشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية ثلاثة تقارير، من توقيع مبعوثتها الخاصة، لور ستيفان، من قلب دمشق.
الأول بعنوان “مظهر حياة عادية في دمشق”، والثاني يحمل عنوان “في دمشق، زمن الأرامل”، فيما الثالث والأخير “دمشق منهمكة، تلتفت نحو المستقبل”. وكنوع من إبراء الذمة، تبادر الصحيفة الفرنسية في البداية إلى التأكيد على أن هذه التقارير أُجريت في منتصف شهر سبتمبر/أيلول الماضي، و”بحضور موظف شابّ من وزارة الإعلام، كما هو معمول به مع جلّ الصحافيين الأجانب في المناطق الخاضعة للحكومة”.
ثم تضيف، في نوع من الافتخار “أنه لأول مرة، منذ 2011، تحصل مراسلةٌ لصحيفة على إذْنٍ من السلطات المحلية للحضور في عين المكان”. ولكن موقف صحيفة “لوموند” من الحرب في سورية لا يختلف كثيراً، في الوقت الراهن، عن صحيفة “لو فيغارو” اليمينية التي تصفق لكل الزيارات التي يقوم بها ساسة فرنسيون إلى دمشق.
فهما تتفقان على أن الأولوية في سورية هي للحرب على مختلف “التنظيمات الجهادية”، وأن التنسيق مع النظام السوري في هذه الحرب مُرحَّبٌ به وضروري، وهما يوردان أحياناً بعض الشخصيات الأمنية الفرنسية التي ترحب بمعاودة التنسيق الأمني مع النظام السوري.
ولكن النظام السوري يعرف جيّداً أن مصداقية صحيفة “لوموند”، التي أرادها الجنرال شارل ديغول، يوماً، صوْتَ فرنسا في العالم التي غالباً ما يتم تقديمُها أكبرَ صحيفة في فرنسا وأكثرها تأثيراً على القرار السياسي، تختلف عن مصداقية “لو فيغارو” التي تحوم حولها اتهامات بكراهية الإسلام والمسلمين، على الرغم من أنها الأكثر دفاعاً عن النظام السوري وتمجيدًا لحربه المزعومة ضد الإرهاب ودفاعه عن المسيحيين.
ويختلف موقف الصحيفتين “لوموند” و”لو فيغارو” من النظام السوري عن وسائل إعلامية، ومنها صحيفة “ليبراسيون” اليسارية التي لا ترى أي أفق للتعاون مع رئيس دولة حارب شعبه، وتسبّب في مقتل ما يزيد على 330 ألف سوري.
وإذا كانت الحرب في سورية لا تزال مستمرة، في انتظار نتائج مفاوضات بطيئة، فقد تعمدت صحيفة “لوموند” في القسم الأول من التقرير تبني موقف السلطة السورية من استتباب الأمن، خاصة في العاصمة التي تجرّأ سياسيٌّ فرنسي يميني، تيري مارياني، من حزب “الجمهوريون”، أن يقول إن شوارعها أنظف من شوارع باريس.
وتتحدث الصحيفة عن “شوارع في دمشق، لا تخلو من السكان، حيث الشباب يدخنون النرجيلة ويشربون القهوة ويلعبون بهواتفهم الذكية”. ثم تنقل تعليقات لسوريين يقولون إن “الأزمنة الماضية كانت أكثر صعوبة، واليوم، لا شيء صعب بالمقارنة”، وتصريحاً لمقاول يعترف بـأنه لا يشتغل سوى ساعة أو ساعتين في اليوم، “لأننا في حاجة إليها، من أجل أن نواصل الحياة، ومن أجل المعنويات”.
أما في القسم الثاني عن الأرامل، فقد أريد منه إثبات الدور الذي تلعبه السلطات السورية في مواجهة هذه الظاهرة الإنسانية المؤلمة، من خلال كثير من الأمثلة، ولكن في كل مرة، تحضُرُ السلطات السورية في اللقاءات، وهو ما ينزع عنها الصدق والحرية والطابع العفوي الضروري في مثل هذه القضايا.
ولا يخفي تقرير الصحيفة الفرنسية أن الشخص الذي قاد الصحافيين الفرنسيين إلى بيت إحدى الأرامل يدعى عادل حمودي القيمري، هو عمدة الحي (مختار) الذي يتحدث عن فظاعات الحرب المستمرة: “توجد كثير من الأرامل. والنساء متعبات، ويحملن الحداد. الرجل، عندنا، هو قنطرة العائلة. وحين يموت ينهار كل شيء. ولا يوجد ما يكفي من الرجال حتى تتزوج الأرامل من جديد”.
ورغم ما يمكن أن يقوم من توصيف لقسوة الأوضاع إلا أنه يتحدث، كما هو مطلوب منه، عن إيجابية الدولة وهنا يتحدث العمدة عن “توفير تكوين للأرامل في الخياطة والحلاقة المنزلية”. يعترف بأن الأمر صعبٌ خاصة مع الجيل الشاب: “الأيتام، هؤلاء الأطفال الذين حُرموا من المدرسة في بعض المناطق خلال عدة سنوات”، لكنه يُمنّي النفس، كما يفعل النظام، بـ”قرب إعادة الإعمار”.
وفيما يخص المهجّرين تتبنى الصحيفة الفرنسية الرواية الرسمية، فترى أن “معظمهم لاجئٌ في المناطق الحكومية”. البعض منهم استطاع اللحاق بأقربائه وآخرون أقاموا في ملاجئ جماعية، خاصة في حرجلة، 15 ألف ساكن، 20 كيلومتر جنوب دمشق. وفي إحدى تنقلات الصحيفة الفرنسية على مراكز استقبال الأرامل، وأثناء زيارة، لا تجد بداً من الاعتراف بأنه حضرَها ضابط رفيع في الجيش النظامي.
ولم يكن بريئاً أن يعترف المسؤول بأن الأرامل المقيمات في مركز حرجلة: “بعضهن أزواجهن في المعارضة، وأخريات أزواجهن في الجيش السوري” قبل أن يضيف: “الكل على علم بالأمر. والكل يعيش، جنباً إلى جنب”. ثم يحضر مازن السقا، وهو عضو في اللجنة المحلية المكلف بالتنسيق بين العائلات والسلطات، إلى جانب محمد ديب قرواني، مدير مركز استقبال المهجرين، وهو ما يجعل اللقاء مع الأرامل وعائلاتهن بعيداً عن الحقيقة.
وكم كان مثيراً اعتراف المدير أن “نصف النساء أرامل. أخريات يقلن بأنهن مطلقات، أو أن أزواجهنّ يعيشون في مناطق مُحاصَرة، ولكني أعتقد أن الأمر يتعلق، في الواقع، بمقاتلين (من المعارضة) وضعوا نساءهم في مأمن”. وفي كل الحوارات التي تمت مع هذه الأرامل يندر أن يجد القارئ انتقاداً لتقصير حكومي أو لتحديد مسؤوليات النظام. فالنظام يفعل ما يستطيع، ويراهن على مستقبل أفضل. وحتى الحلقة الثالثة، فقد جاءت كما يريد النظام السوري أن يسوق الوضعية الحالية، للداخل والخارج معاً.
فـ”دمشق منهكة، ولكنها تتجه نحو المستقبل”، وهي بروباغاندا النظام السوري، الذي يُراهن على “المصالحة” وعلى أنه هو من سيشرف عليها. ومن هذه البروباغاندا أن “جامعة دمشق، رغم الحرب لم تتوقف عن نشاطها”. ثم تتطرق الصحيفة لما تسميه “الورشة الكبيرة لإعادة الإعمار”، والتي تحتاج إلى 200 مليار دولار.
يبقى أن نشير إلى أن جل التعليقات على التقارير التي سمحت لها الصحيفة الفرنسية بالظهور على موقعها، تدافع عن خط الصحيفة الفرنسية وتشيد بالعمل “المهني” لمبعوثتها الخاصة، لور ستيفان، ولا شيء يتحدث على إصرار شخصيات رسمية وضباط للنظام على الحضور، أثناء لقاء عمل الصحافية، وهو ما كان سيُعتبر من قبل الصحيفة الفرنسية، لو حدث في مكان آخر، مُنافياً للموضوعية، ومؤثراً سلباً على حقيقة الأوضاع. تماماً كالصحافيين الذين يتحركون مع القوات الأميركية، في العراق وأفغانستان، وكأنهم جزءٌ لا يتجزأ منها، ويقدمون، بالضرورة، روايتَها للأحداث.
العربي الجديد