لون الكنار/ عزيز تبسي
-1-
الأقفاص معلّقة قرب بعضها، بمسامير مرتفعة، مثبتة على جدار العمارة العالية. أخرجها من بيته الذي لا يطل على الشارع، واستعان على رفعها بعصا طويلة. عاد بعدها إلى الرصيف المقابل، جلس على كرسي خشبي واطئ، لينظر إليها وهو يدخن.
تتقافز داخلها الكناريات برعونة، على عيدان تتقاطع بين جدرانها، وتتشبث بالقضبان النحيلة، كأنها تريد الانتقام من أجنحتها، التي لم تعد تتمدد على اتساعها، وفقدت مع الوقت وظائفها. تتوقف لبرهة لتنقر حبيبات القنبز والدخْن وتتعالى إلى شرائح الخيار الموضوعة ما بين القضبان وعبوة المياه، ثم تعاود الطيران. إن جاز وصف هذا الارتطام بالقضبان طيرانًا.
لا يُعرف ما تقوله في تغريداتها الطويلة، التي تحرق حناجرها، أهو حنين لأوطانها البعيدة، أم توجع من هذه الحبوس التي لا تنتهي إلا بموتها، أم شوق لأخواتها الموزعات على الأقفاص؟ صعب فك طلاسم التغريد، كما هو صعب فهم الكلام الذي يقوله الناس قبل غرقهم، وهو عالق في حناجرهم مع غرغرات المياه المالحة. ويبقى اللون في ريشها، يتأجج كضوء منير على جدار لم تبارحه الآثار السوداء لدخان الحريق الذي التهب في العمارة.
لا يهم الآن ما تقوله الكناريات في تغريداتها، لأنها لا تقوله لمن يسمعها من العابرين تحت أقفاصها، هي تتخاطب مع الطيور. ما يهم الآن ودوماً أن تثابر على التغريد المتوجع، علّه يضرم توهجات الاحتفال بحياة الكائنات التي لمّا تزل متشبثة بالحياة.
-2-
لا تتوقف محاولات إقناع الناس أنهم على قيود الحياة، التي أضحت بدورها كأنما مستخرجة من عصائر فاكهة ذابلة على أغصانها أو طريحة التراب.
يسيرون في الشوارع ويبتسمون لمن يصورونهم، يشربون التمرهندي المثلج ويرفعون أذرعهم لتحية أناس لامرئيين، ويتحدثون بطلاقة البلابل، حين يطلب منهم الحديث، متجولين في سهول المؤامرة وهضابها والمتآمرين وقصورهم وأقبيتهم، وعن النصر الذي يكون عادة، كما آلام الشقيقة وإنسداد الشرايين وانشطار الأكباد، حليفاً للشعوب.
هم على قيد الحياة، لأنهم لم يُرموا بعد في حفر سطحية ولم يهل التراب عليهم، وفق الممكنات المتاحة، فليس في الحروب حرج… كأن يُترك القتيل في العراء، أو يعفر التراب فوقه بعنت، من مقدمات الأحذية الثقيلة. لكن الموتى لن يسمعوا عبارات هؤلاء الحانوتيين الجدد وضحكاتهم، تدثروا بطمأنينتهم المتوارثة “إنهم يعودون إلى التراب، الذي جبلوا منه”.
يبقون في بيوتهم، طالما لم تأتها قذيفة عشوائية، وليست في ثراء معماري، يجعلها شهوة لطالبيها من لصوص وقتلة يتدثرون منذ سنوات في ألبسة عسكرية.
يحتملون ساعات الإهانة في الشوارع، أثناء إبراز بطاقاتهم الشخصية للحواجز العسكرية، وبعد تقديمها بأناة إلى المسلحين، ويتجاوزون الجفلة التي يسببها كلام العسكري المهدد:
– هذه ليست بطاقتك…الصورة لا تشبهك. قبل أن يلتفت إلى من يعلوه شأناً ويتابع: بطاقته مزورة.
من غيرالمناسب الحديث أمام الحواجز العسكرية ولا شبه العسكرية، عن التغييرات التي تحصل للوجه، التي تتسبب بها ليال بلا نوم، وأوجاع الانتظارات الطويلة أمام الأفران، بعدما يفاجئهم أصحابها في اللحظات الأخيرة بنفاد الخبز، والتوقف تحت المطر لانتظار صهاريج مياه لا تصلح للشرب، والركض أثناء سقوط القذائف، وبتلك الهواجس التي تتسبب بها سيارة لم تتحرك منذ وقت، بشكوك كونها مفخخة. والجلوس الطويل على كراسٍ مترنحة في عزاءات لا تنتهي، وباختفاء الأهل والأصدقاء كأنهم قبضة من الملح المذاب في المياه. كما ليس من المناسب الحديث كذلك عن سرعة دخول الشعوب سنوات الشيخوخة، بينما يحافظ من يحكمونها على شبابهم المتجدد، مدججين بأصبغة الشعر اللامعة والعطور والمراهم، وجلسات التدليك، والطعام المنتخب والنوم البطران. يجب الانتظار بمزاج رائق، المصير المترتب على قراءة محتويات البطاقة، والإذن بمتابعة الطريق، قبل فتح المحفظة لإخراج بطاقات تعريف أخرى، بات من المتوجب حملها معاً، رغم المجازفة بفقدانها معاً أيضاً، وكل ذلك لتأكيد معلومات البطاقة الشخصية، كدفتر الخدمة العسكرية، وإجازة قيادة السيارة، ودفتر العائلة.
-3-
كل شيء قابل للتغير، حتى الحديد الخارج من فوهات الأفران الملتهبة، متوجاً بخصائص القسوة. محال عودة الزمن إلى الخلف، كما تتراءى الأشجار من نوافذ القطار السريع.
الموضوع في بلادنا، لم يعد في إنتاج الأسئلة ولا في الإجابة عنها، وإنما في إنتاج قوة تستطيع وضع هذه التصورات الأولية في حقل التطبيق، كما لم يعد الموضوع في تعقب أخاديد تسعير الكراهيات، التي خفضت الوعي العمومي في هذه السنوات إلى ما دون درك مجارير الصرف الصحي، وإنما في الأسعار المدفوعة لهذا التسعير.
– لماذا تؤيد الديكتاتورية؟ سأله وهما يتوقفان أمام موقف الحافلات، لم ينظر في عينيه لئلا يربكه، ولا إلى قدميه لئلا يرتبك من رؤية أصابعه الخارجة من تمزق جلد الحذاء المهترئ. نظر إلى الأمام حيث العبور الدائم لشاحنات “السوزوكي” محملة بأعفاش بيوت غادرها أهلها، أو مع أهلها الذين يعلونها، والشاحنات التي تحمل صهاريج المياه المعد للبيع للعطشانين، ولتلك التي تحمل لفافات أقمشة مستعادة من مستودعات منهوبة. لم يسمع رده، خاله لم يسمع السؤال، كرره. سمع صوت النفس الخارج من الاحتقان اللاذع في الأنف، والسعال الوافد من حنجرة مدلكة بالتبغ الثقيل، كمن يتصاعد من شفتيه بخار الخوف، الذي يضمر الإجابات كلها.
كل شيء قابل للتغيير.
بعدما كان مؤذنو الجوامع يحملون الله في قلوبهم، ويمضون إلى الغناء والرقص في الأفراح….الآن المطربون يهجرون غناءهم ويصعدون بقلوب ميتة إلى أعالي المآذن، ليبشروا الناس بالتهلكة وعذابات القبر.
والمدنيون المرحون، المتقافزون فوق الأرصفة، يتخلون عن لباسهم النظيف الخارج من تحت مكواة مستعرة، ليتفاخروا باللباس العسكري المتوعد.
كل شيء تغير، وبات الرعب يجبر الناس على التبول في ألبستهم، ويدفع الرجال، لمشاركة زوجاتهم وأولادهم الرضع في وضع الفوط.
– أتحب الكناريات؟
– أحب مثابرتها على التغريد، وهي في جوف أقفاصها، أحبها في صمتها المتوج بريشها المضيء.
حلب، نيسان 2016
العربي الجديد