لو تستطيع الكلمات
الياس خوري
بدأ يوحنا انجيله بعبارة تلخص كل الكلام: ‘في البدء كانت الكلمة’. والكلمة عند يوحنا هي اللوغوس اليوناني، اي مزيج العبارة والفعل. انها الكلمة كفعل وليس كاسم. اي ان الانجيلي وهو يروي حكاية يسوع الناصري، الذي يطلق عليه العرب اسم عيسى بن مريم، ربط الكلمة بالفعل، فالكلمة صارت انسانا، والانسان صار سيد التاريخ.
هذه العلاقة بين الكلمة والفعل، البدء والتحول، هي الوجه الأكثر اهمية في علاقة الأدب بكاتبه، وفي طموح الكلمات التي تتجاور على الورقة البيضاء كي تقفز من بين الأسطر، وتخرج من دفتي الكتاب، وتتحول فعلا يغير، وتاريخا يشارك في صناعة التاريخ.
اكتب عن الكلمات في يوم عيد الميلاد لا لكي استعيد حكاية ابن الناصرة مع غربته في هذا العالم، وكيف ارتفع على صليب الألم، ككلمة سال منها الدم والماء، بل لكي اروي عن عذاب الكلمات في هذا المدى العربي المغطى بالدم والالتباسات وبحثه عن البداية التي تصير كلمة.
لو كانت الكلمات فعلا في التاريخ، لاكتفينا من الدم بالرمز، ومن الألم باستحضار ذاكرة الألم، لكن الكلمات تبقى كلمات، فيما تلهث اللغة خلف الألم، فتصير الكلمات جروحا يسيل منها الدم، مثلما تسيل دماء السوريات والسوريين على ارض التاريخ.
الكلمة جرح، هكذا تأسس معناها في لسان العرب. والجرح بدأ على طريق دمشق بحسب الحكاية الانجيلية. شاوول الذي سيصير بولس الرسول، لم يرَ على طريق دمشق نورا، بل رأى جرحا، فانطفأت عيناه قبل ان يستعيد الرؤية بالكلمة. لذا اطلق السوريون على مدينة داريا اسمها، انها دار الرؤيا كما يقول اللغويون. في دار الرؤيا التي صار اسمها داريا رأى السوريات والسوريون هول الدم، ونُفذت المجزرة الأكبر والأكثر بشاعة، ولم تسعف الكلمات اهل المدينة، ولا شفعت لهم الورود وقناني الماء التي وزعها غياث مطر على الجنود في بداية الثورة، كما لم تشفع لهم جثة ابنهم التي عادت اليهم مشوهة بالتعذيب، ومرسومة ككلمة مغطاة بالجروح.
لو تستطيع الكلمات لامتزجت بالمطر وصارت شفافة كالماء، وغطت ارواحنا بألوان لا اسماء لها، ورسمت بلادنا من جديد.
لو تستطيع يا شام الكلمات، لكنتِ اليوم وردة تتفتح فيها الفصول، وأغنية للحب الذي يمتزج بالشجاعة والجمال الذي يسيل كأنهارك السبعة، ولارتسمت كما الأبيض الذي يغطي حرمون بدفء الشتاء.
لو تستطيع الكلمات لرأينا ارضا جديدة وسماء جديدة. لقلنا للطاغية ان يمضي، فيمضي بحسب ما نقول.
لكن الكلمات لا تصير الا حين تتجسد.
استوطنت الكلمات اجسادنا، ونزف منها دمنا. فصار الناس كلمات مكتوبة بالأسى والمقاومة والحب والموت.
نتعلم منك يا شام ان اجسادنا هي الكلمات، وان ما تصنعينه ايتها البلاد بابنائك هو بداية الكتابة التي صارت اغصانا على شجرة الشهداء التي تظللنا بالنور.
نور على نور. يتوهج الانسان غصنا في زيتونة فلسطينية عمرها من عمر الدهر، تضيء روحه بزيت الشهادة.
نرى كلماتنا وقد صارت اجسادا، ونرى الأرض كتابا، ننكتب بالتراب والماء والدم ونضيء في العتمة.
‘في البدء كانت الكلمة’.
هذا البدء الذي انتظرناه طويلا يأتي بطيئا وملوثا بوحل التاريخ. لكنه يأتي يا شام، فانتظرينا بماء الحياة، ولا تحزني، لأن الكلمة صارت جسدا وها هي اجساد الناس تكتبك وتنكتب فيك.
اراك في الفجر فجرا وفي الضوء ضوءا، فاشرقي على الأجساد التي صارت حروفا تكتب اسماءها على اسمك.
القدس العربي