صفحات الرأي

ليل المدينة المتصل بنهارها… يجمع ويفرَّق وينتج ويرفّه على إيقاعات مبتكرة/ لوك غفيازدزينسكي

 

 

لم يعد ليل المدينة، مطلع القرن الواحد والعشرين، الوقت الذي تغلب عليه العتمة التامة، ويرمز إليه منع التجوال، وإغلاق البوابات، والسكينة الاجتماعية التي ألهمت الفنانين الساعين إلى الحرية فيلجأ إليه الجانحون، ويخشاه الناس الوادعون. فالمجتمع يعرِّف لياليه من جديد تعريفاً عميقاً، والمدينة تستجيب دواعي التعريف الجديد ومعاييره. وفي الحواضر التي يغلب عليها زمن الاقتصاد وشبكات التواصل، يبقى شطر من الحياة الاجتماعية والاقتصادية مستيقظاً. ويبث الليلُ النهار أموراً كثيرة. فثمة اليوم، حياة بعد النهار تسري في المدن الكبيرة وتبث فيها أنماط حياة تحررت من الضوابط الطبيعية، ووزعت أوقات العمل على نحو مختلف، متوسلة بتكنولوجيا الإضاءة والتواصل المبتكرة. ففي الليل ترتسم جماعات سكانية ومركزيات وحدود أخرى، وتباشر هذه الجماعات تقصيها وإبداعها وتجريبها في دوائر الليل.

وبين اضطراب الأمن والحرية تبلورت «يوميات مدينية» (تييري باكو) جديدة ومتصلة من غير انقطاع. ومنذ نحو 15 عاماً، تسارع استعمار الليل، وخططت خريطة جغرافية وإقليمية خاصة، وجبهة رائدة. فالضوء يغشى تدريجاً فضاء المدينة كله، ويمحو جزئياً الشطر المعتم من ليلها، وهو شطر يضمر التهديد ويبعث الخوف. وفي مقدور أنشطة النهار وأعماله الاستمرار في الليل. ودوامها جزء من استراتيجيات تحسين نوعية الحياة والتسويق الإقليمي والبلدي. والساحات والشوارع المضاءة، ومناطق الأنشطة المستثمرة، يفترض فيها أن تستجيب إلى احتياجات السكان الجديدة وإلى احتياجات المستثمرين وأصحاب الكفاءات والسياح، والشركات الصناعية والمكتبية تعمل من غير توقف سعياً في مردودية التجهيزات.

وعمل الليل يسري في القطاعات كلها، ولم يعد استثناء، ولا محصوراً في بعض القطاعات دون غيرها: فوق 15 في المئة من قوة العمل المأجورة تعمل ليلاً في فرنسا، أي حوالى 3.5 مليون شخص، ويتعاظم هذا الرقم منذ التسعينات على رغم النتائج الصحية السلبية المترتبة على العمل في الليل. ويؤدي شعار «7 أيام على 7 و24 ساعة على 24» دوراً ترويجياً تتوسله شركات الخدمات إلى توسيع إعلانها. وفي أوروبا، من بولندا إلى بريطانيا وبينهما ألمانيا، تفتح المحال أبوابها مساء. وأمسى الليل تجارة رائجة: أجهزة التوزيع الآلي تنتشر، و «الليالي الخاصة» تجتذب الزبائن، والإذاعات والتلفزيونات تبث من غير انقطاع.

ويستهلك أهل المدن الليلَ على نحو متعاظم، 80 في المئة منهم يقولون أنهم يخرجون للترفيه ليلاً، وكان هؤلاء 60 في المئة قبل 30 عاماً. وتنقلهم يجعل السيطرة على المضار الناجمة عن الضجيج عسيرة. ويتيح الهاتف المحمول حياة ليل متزامنة ومتناغمة مع أوقات رفاق السهر. وحَمَل حظرُ التبغ في المقاهي والمطاعم والحانات شطراً من المستهلكين على الخروج إلى الطريق العام، ونفخ في النزاع مع المقيمين. ونجم عن هذا كله انقلاب الإيقاعات الطبيعية أو البيولوجية. فينام معظم أهل المدن الساعة الحادية عشرة ليلاً، وكانوا يخلدون إلى النوم في الساعة التاسعة قبل خمسين عاماً، وتقلصت ساعات النوم عما كانت عليه. وانكمشت ساعات الليل، وهي الوقت الذي تغيب فيه الأعمال والأنشطة، إلى تلك التي تقع بين الواحدة والنصف بعد منتصف الليل وبين الرابعة والنصف فجراً، وتجري على إيقاعات أسبوعية وموسمية وشهرية ويومية متفاوتة.

فالوقت بين الساعة الثامنة مساء (الساعة الـ20 على حساب الـ24 ساعة المتصلة) والواحدة والنصف بعد منتصف الليل (أو الساعة 24)، هو وقت «السهرة» أو هامش الليل المتقدم الذي تغلب عليه أنشطة النهار، ويستهلكه التردد إلى المحافل الثقافية وملاقاة الأصدقاء والنزهات. و «قلب الليل» هو الوقت بين الواحدة والنصف والرابعة والنصف، حين لا يبقى غير العسس مستيقظاً، وأهل السهر والاحتفاء بالوحدة، والعمال «الليليون» المنصرفون إلى مشاغل لا متسع لها إلا تحت جنح العتمة والسكون. ويطل «الصبح الوليد» ويتنفس بين الرابعة والنصف والسادسة، وهو هامش النهار الآتي، حين يعود أهل الليل إلى مأواهم، ويصادفون في طريقهم الذاهبين إلى أعمالهم. ويسود من السادسة صباحاً إلى الثامنة مساءً سلطان النهار ومدينته.

على هذا، فالليل هو «مكان – وقت» تتقدم فيه مسائل الأمن، وتتبوأ مكان الصدارة، وقد لا تجتمع شروط السكن المستقر والمأمون وبيئته أقل من بيئة النهار، إذا قيست الضيافة في ميزان الإنارة والرطوبة والحرارة. وهي أضعف سكناً، وتصبغها الأهومة والصور بصبغتها المقلقة، ويبث خفوت الإنارة الاضطراب في الأنفس. وتترجح حال الإنسان الفيزيولوجية والنفسية بين الإرهاق والتنبه المفرط. ومن علامات هذا «المكان – الوقت» الخاصة إقبال أهله على مواد تضعف مراقبة النفس والتحكم في النزوات، وقد تؤدي إلى انعقاد علاقات مختلفة بين الأفراد. فالمساكنة بين المدينة النائمة، والمدينة العاملة، والمدينة المنصرفة إلى الترفيه، لا تسودها علاقات الوئام على الدوام.

والليل يحفز السلطات والهيئات العامة على تجديد سياساتها ومناهجها، وابتكار أشكال غير معهودة من الحوار والمساومة والوساطة والتنظيم والحوكمة. فتبذل وسعها في سبيل الاحتفاظ بدالتها وكلمتها الفصل، شأنها في التشريعات التي تنظم حفلات الموسيقى التكنولوجية أو في فرض منع التجوال في أحوال طارئة. وتبادر السلطات والهيئات العامة، في أحوال أخرى، إلى رعاية ليالي المدن وتحسين ضيافتها واستقبالها ومرونتها. وإلى اليوم، لا يصح الكلام على «سياسة عامة لليل»، على رغم تكاثر المبادرات العامة (الحكومية) إلى العناية بنوعية حياة السكان والتسويق الإقليمي المحلي.

وتترجح المبادرات بين المراقبة والضبط وبين الانفتاح ورحابته. والحواضر التي تحاول تجاوز «ليل المعطيات»، وتتشارك تشخيصها، كثيرة، شأن مونريال (2011) وليون أو بروكسيل عندما اختبرت معاً «عبوراً ليلياً». وفي العقد العاشر من القرن الماضي، اشتركت مدينتا ليدز ومانشيستر، ببريطانيا، في تفحص «اقتصاد الليل». وفي 2002، شدد تقرير تناول لندن الكبيرة، موسوم بـ «لايت – نايت لندن بلانيغ أند ماناجينغ ذا لايْت – نايت إيكونومي» (وقت الليل المتأخر في لندن: تخطيط وإدارة اقتصاد الليل) على قضايا المدينة الدائبة الحركة 24 ساعة على 24 (ساعة). وتلته تقارير أخرى تناولت غلوسيسْتير (في 2005) وليْسيستر (2005)، وسيدني وملبورن أو نيويورك (تقرير «نيويورك نايتلايف أسوسْييشن» – جمعية حياة الليل النيويوركية في 2004). وعالجت تقارير أخرى، سويسرية وفرنسية مسائل أخرى في إطار هيئة عامة ومشتركة.

وبينما تقوم سياسات بلدية ووطنية عامة بالتخطيط لـ «تنظيم مُدُني منير»، فتضيء المباني والأنصاب، ويتولى فنانو الإضاءة، مثل يان كيرسادي في سان نازير، نحت الليل ويضفون على أحياء المدن خصوصية ليلية، يحمل الهم البيئوي آخرين على تقليص فاتورة الطاقة، وحفظ أنواع الهوام والحشرات الليلية من عدوان الأضواء الحادة عليها. فتقلل بعض البلديات ساعات الإضاءة العامة. ومنذ حزيران (يونيو) 2013 تطفأ أنوار الواجهات والمحال والمكاتب والمباني العامة الفرنسية مثل الأنصاب والمدارس والبلديات. ويبلغ وفر النفقات من هذا الإجراء 200 مليون يورو، ويقلص مفاعيل التلويث الضوئي. ويغلب نزوع عام إلى تقريب دورية المواصلات العامة، وتوسيع دائرتها، في أنحاء العالم كلها. وفي بعض المدن، شأن برلين وبرشلونة، يعمل مترو الأنفاق فيها على مدار ساعات النهار والليل. ولكن معظم المدن يميل إلى توسيع شبكة الباصات والحافلات في الليل، وإلى زيادة رواحها ومجيئها. وتلقى محطات الدراجات الهوائية في ليون إقبالاً قوياً. وفي 2015، يفتح المترو اللندني أبوابه طوال الليل، وخلال العطلة الأسبوعية، إثباتاً لصيت لندن، على قول عمدتها، كـ «أفضل حاضرة كبيرة في العالم». ودعت «مسيرات مشاركة» في كندا إلى المساواة بين النساء والرجال، في استعمال الليل وتأمينه للجنسين.

وسعت السلطات على الدوام في التحكم في الليل، وتوسلت إلى ذلك الشرطة والإنارة العامة. وتتمة هذه السياسة، اليوم، هي المراقبة بواسطة الفيديو و «مراسلو الليل»، على ما هي الحال في مدينتي رين وستراسبورغ، الذين يتولون وقاية الأمكنة العامة من التعدي عليها وتطمين مرتاديها إلى رعايتها. ونشرت البلديات في برشلونة ومونريال «موشوشين» في المحافل الليلية، يطوقون استفحال المشادات إلى ما لا يحمد ضرره. وفي باريس، من يسمون «بيارّو الليل» يجمعون في وساطة واحدة دوراً فنياً ودوراً اجتماعياً. وكانت مدينة ليلْ (بشمال فرنسا) رائدة الدعوة إلى صوغ «ميثاق ليلي» يوفق بين السهر وجاذبية المدينة وراحة المقيمين. واقتفت أثر ليل مدن أخرى مثل ليون وستراسبورغ وغرينوبل وجنيف، فبلورت إطاراً مبتكراً للمشاركة والتعاون بين أطراف العلاقات الليلية ورعايتها وتطويرها.

وينجم عن تضافر الوجوه الثقافية والفنية والسياحية المدينية برنامج عريض تترجمه المدن المتفرقة على هواها: «ليل الفنون» في هلسينكي، و «ليل المتاحف» في ميونيخ، و «الليالي البيض» في سان بيترسبيرغ وباريس وروما وبروكسيل ومونريال ونابولي أو «ليل العلوم الأوروبي» في برلين وغيرها. ولكل المعارض والأسواق، اليوم، «لياليها» و «فراداتها الليلية» وجمهورها. وتفتتح المحال الجديدة في أول الليل أو أواخر المساء. وفي ملاعب الرياضة تقام «ليالي الكرة الطائرة» في أعقاب «ليالي الممرضات». وفي القرى، أمست الأسواق الليلية جزءاً لا يتجزأ من ديناميات النمو البلدي والسياحي. وشيئاً فشيئاً، انقلب التدبير من روزنامة الحوادث والاحتفال بها إلى «التنظيم المُدني الزمني» الذي يتربع البعد الليلي في قلبه. ويلقى الاحتفال بالليل، منذ سنوات، معارضة بعض المقيمين وتصديهم لانقلاب ليل أحيائهم نهاراً يضج بالضوء والرواح والمجيء.

* أستاذ جغرافيا التنظيم المدني في جامعة – فورنييه بغرنوبل، عن «اسبري» الفرنسية، 12/2014، إعداد منال نحاس

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى