صفحات الثقافة

مأزق الأعمال الكاملة/ عبده وازن

 

كلما صادفت أعمالاً شعرية في بضعة مجلدات تحمل اسم شاعر واحد، اعتراني شيء من الاضطراب، وسرعان ما أسأل نفسي: كيف أوتي لهذا الشاعر أن يملأ هذه المجلدات الضخمة التي تربو في أحيان على العشرة؟ أي إلهام سقط عليه وحفّزه على الإغراق في مثل هذه الغزارة؟ ألم يشعر ببعض السأم من الكتابة نفسها عندما تصبح بمثابة «فرض» أو ما يشبه الوظيفة؟

شيء من الاضطراب والحيرة و «الرهاب» يصيبني عندما أجدني امام هذه الاعمال الضخمة و «غير الكاملة» في الغالب، نظراً الى أن شعراءها ما زالوا يكتبون ويصرّون على الكتابة، على رغم تجاوزهم شأواً من العمر، أمدّ البارئ بأعمارهم. تُرى لماذا يكتب هؤلاء؟ لمن يكتبون؟ كيف يكتبون؟ ألم يضعوا القارئ نصب أعينهم؟ ألم يأخذهم الشك يوماً بأنفسهم وبما يكتبون؟

مجلدات يحار القارئ كيف يبدأ في قراءتها. ألف قصيدة وربما ألفان، صفحات تتلو صفحات، عناوين تسابق عناوين… شاعر يبتغي ان يكون جمعاً من شعراء، أن يصنع بنفسه تراثاً كاملاً. الشعر بذاته لا يهمّ، ما يهم هو الكم. ينظر الشاعر الى اعماله تتزايد ديواناً تلو ديوان وفي ظنه أنه لم ينه الرسالة المولج بها ولم يكتب كل ما يجب ان يكتبه، كل ما عُهِد اليه أن يكتبه. هذا شاعر لا تعنيه أزمة وجودية تدعى أزمة «الورقة البيضاء» وفق عبارة الشاعر الفرنسي ستيفان مالارمه. الصمت الشعري لا مكان له في حياته الداخلية. شاعر لا يشك بملَكَته وقدراته. شاعر فحل كما تقول العرب. لا يكاد يجلس الى أوراقه حتى يحبّرها.

سئل مرة الشاعر الفرنسي إيف بونفوا عن الازمة التي يعانيها الشعر في الحضارة الحديثة، فكان جوابه سؤالاً: «متى لم يكن الشعر في أزمة؟»، ثم أوضح أن الأزمة المقصودة هي أزمة وجود وكينونة. فالشعر هو اختبار داخلي مثلما هو تجربة لغوية، شعر يسائل نفسه باستمرار، ينقلب على نفسه، يواجه نفسه مواجهته للعالم والحياة والموت والذات الانسانية.

الشعر كائن ضعيف بصفته الكائن الأنقى والأشفّ والاعمق والأشدّ حياةً. أما كتابة الشعر فهي فعل صراع مع اللغة كما مع الحياة والواقع والصدفة والحلم والالم والحب والرغبة والجسد والعواطف السرية والجهات الغامضة في الانسان. عندما يحمل الشعر نموذجه في صميمه ويجعل منه قالباً جاهزاً يسكب فيه ما يسكب من مفردات وتراكيب ومقولات وأفكار إيديولوجية ومبادئ، يغدو الشعر صنعة، خلواً من الروح والدم والعصب، صنعةً سهلة تسترجع نفسها تقنياً وتُغرق في الرتابة وتفقد نار اللحظة المشرقة.

وقعت أخيراً على أعمال سعدي يوسف في مجلداتها السبعة التي فاجأت بها دار الجمل قراء هذا الشاعر الرائد والمخضرم، وشعرت ببعض الارتباك امامها: أيعقل ان يكون صاحب «الاخضر بن يوسف» هو الذي كتب كل هذه المجلدات؟ هذا الارتباك شعرت به سابقاً أمام اعمال نزار قباني الذي كان ربح السباق في بلوغ اعماله الكاملة رقماً قياسياً. أما اعمال الشاعر أدونيس التي تصدر تباعاً عن دار الساقي فهي ستتخطى العشرة مجلدات على الارجح، لا سيما ان «الكتاب» وحده يؤلف ثلاثة مجلدات… لا ادري إن كان هؤلاء الشعراء الكبار يتذكرون ما كتبوا من شعر، جرّاء غزارته ووقوعه في أحيان في شرك «الصناعة» التي باتت ممهورة أو لأقل مختومة بأسمائهم. ما إن تقرأ مطلع قصيدة لواحد منهم حتى تعلم للحين أنها تعود إليهم. وعندما يقلدهم بعض المريدين، يشعر القارئ أنّ مادتهم مقلَّدة وليست أصلية. وهؤلاء الشعراء يصعب تقليدهم فعلاً تبعاً لانغلاق شعريتهم على نفسها، على معجمها وتقنياتها وأسلوبيتها. لعلهم هم وحدهم القادرون على تقليد نفسهم بنفسهم، مثلهم مثل شعراء كبار آخرين وفي مقدمهم سعيد عقل الذي شوّه شعره أتباعُه المقلّدون.

هل يحتاج الشاعر ان يكتب كثيراً كي يصبح شاعراً كبيراً؟ أتذكّر هنا الشاعر الفرنسي بودلير وديوانه شبه اليتيم «أزهار الشر» الذي أعلن ثورة الحداثة في العالم. أتذكر رامبو الذي لم تتعدّ اعماله الكاملة المئتي صفحة من الحجم الصغير، وعبرها أنجز هذا الشاعر الغريب إحدى أهم التجارب الشعرية التاريخية. أتذكر ايضاً أنسي الحاج الذي بلغ قمم الشعر بدواوين قليلة. كثر هم الشعراء الذين كانوا مقلّين وحققوا إنجازات شعرية كبيرة. وكثر أيضاً هم الشعراء الذين كانوا مكثرين وكانت لهم اعمال كبيرة ومنهم على سبيل المثل لويس اراغون وبابلو نيرودا وأدونيس… ولا أنسى ظاهرة الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا الذي اخترع شعراء أنداداً له ووقّع قصائده التي لا تُحصى بأسمائهم. وكانت حيلته هذه مثالية في حال الغزارة الشعرية.

ليس مهماً ايها الشاعر ان تكتب كثيراً أو قليلاً، المهم ان تكتب شعراً هو الشعر بعينه. كل ما ليس سواه سيسقط أياً يكن اسم صاحبه.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى