صفحات الثقافة

مأزق الكتابة والحراك العربي


د.عبد الرحيم جيران

تظهر بين الفينة والأخرى كتابات أدبية تدعي أنها تلتقط ما يحدث اليوم من أحداث بالعالم العربي جماليا. أمر من هذا القبيل يطرح إشكالات عدة، ونوعا من التسرع غير الحكيم في اختيار الموضوع الجمالي. فهل بمقدور الكاتب أن يمتلك القدرة على فهم ما يجري في حينه؟ وهل تتوفر لديه كل المعطيات الصحيحة لتكوين وجهة نظر دقيقة؟ أتكمن مهمة الأدب في تسجيل ما يحدث أم في مجاوزته نحو ما هو خفي يعبر عن الحقيقة جماليا؟ هل هناك فعلا اليوم حقبة تمضي وأخرى تتأسس حتى يمكن للأديب أن يلتقط الصيرورة في جوهرها الحقيقي؟ ما الفاصل بين مهمة المؤرخ ومهمة الأديب؟ ما هي تطلبات الجمالي في صياغة الحدثي؟ إلى أي حد يمكن للكتابة اليوم أن تساءل نفسها في ضوء ما يحدث، وتعمل في خضم ذلك على إعادة النظر في استراتيجيتها ووسائلها؟

1ـ لا أريد من الإدلاء بوجهة نظري في صدد هذا الموضوع من أجل مناقشة نص بعينه، وإنما منتهى غايتي من ذلك معالجة ظاهرة تطبع الآن مشهدنا الثقافي، وتتمثل في تهافت العديد من الكتاب على الكتابة حول ما يجري في وطننا العربي، ومنهم الطاهر بنجلون، وواسيني الأعرج، والكوني، وغيرهم كثير، وما أخشاه هو أن تخدعهم قشرة الموز. فما يحدث الآن لم تستقر ملامحه بعد، وهو مدوخ، وكل أدوات التحليل التي نتوفر عليها لا يمكنها النفاذ إلى حقيقته، وما سينجم عنه من نتائج وتبعات، لأن الأمر يتعلق ببساطة بصيرورة لم تكتمل بعد ملامحها على نحو نستطيع معه فهمها. هذا إلى جانب أن أي حدث تاريخي يحتاج فيه المرء إلى وثائق، ومشاهدات، ومصادر، ومعاينات مباشرة، وهذا ما قام به أحد الصحافيين الفرنسيين، حيث رحل إلى سوريا، وعاش لحظات الصراع هناك بين لعلعة الرصاص، ليقترب من الحقيقة، ولكنه لم يتجاوز في ما كتب مهمة التسجيل، لأن الصورة لن تكتمل إلا بعد انتهاء الحدث، وتشكله على نحو نهائي، وبالمناسبة هذا الصحافي يمارس كتابة الرواية. فكيف يمكن لكاتب يحترم نفسه أن يكتب حول حدث جارٍ، وهو قابع في ركن ما بعيدا عن الحدث، بمأمن من فواجعه. فلا تكفي قراءة الجرائد، ولا مشاهدة القنوات لتكوين نظرة موضوعية، لأن الجرائد والقنوات تنقل الحدث انطلاقا من توجيهات مسبقة. ولكن ما هو محير أكثر في الأمر هو تلك القدرة التي يتوفر عليها هؤلاء الكتاب، والتي تسمح لهم بأن يكتبوا رواية في أيام معدودات، ونحن نعلم أن النصوص الروائية الجيدة تحتاج إلى وقت، وبخاصة الرواية التي تتخذ لها الحدث التاريخي موضوعا، ففي هذا النوع لا بد من مساءلة مراجع محددة، فما يحدث مثلا في سوريا الآن لا تكمن حقيقته في ذاته، بل أيضا في التاريخ الماضي لسوريا أيضا، وهذا يتطلب رجوعا إلى المصادر التاريخية ومساءلتها حتى تكون للرواية رؤية متكاملة. فهل يمتلك هؤلاء الكتاب حدسا فوقَ التاريخ، يمكنهم من ملامسة الحقيقة، وتصويرها جماليا من دون كل هذه الاحتياطات التي هم في غنى عنها؟

2ـ لا بد للكاتب الروائي من أن يكون على بينة من الجنس الأدبي الذي يكتب فيه. فكل جنس أدبي له تطلباته الجمالية الخاصة به. فالرواية الخالصة ليست هي الرواية التاريخية. فالأولى قد تسمح للتخيل أن يكون حرا غير مرتهن بصدقية ما يروى فيه، بل ربما كان إنزال الحق منزلة الباطل فيه- كما يقول الجاحظ- مطلوبا؛ أي أن التصديق ينجم فيه عن الطريقة التي يبنى بها التخييل، وعن الاختيار الأسلوبي في صياغة هذا التخييل. لكن الرواية التاريخية، وإن كانت لا تسلم من عبث التخييل بها، وكذلك تحتاج إلى ملكة الخيال في بناء الحدث، فهي مطالبة بنوع من التحري في حقيقة الحدث، وفهمه على نحو من الأنحاء، وتوظيفه توظيفا استراتيجيا يتوخى في الأغلب ثلاثة أهداف رئيسة: الإمتاع والمعرفة وسؤال العصر الذي تكتب فيه الرواية. كل هذه الأمور يمكن التساهل فيها، لكن ما لا يمكن التساهل فيه هو التمييز الحاصل بين الحد الفاصل بين التاريخ والرواية الذي بإمكانه أن يؤسس للرواية التاريخية . فالتاريخ يتوفر على المادة التي تهبها المصادر والوثائق، لكنه يفتقر إلى ممكن العلاقات التي تسمح لهذه المادة بأن تصير مفهومة في إطار حبكة معطاة. ولهذا تتعدد حبكات التاريخ بتعدد المؤرخين، حول المادة نفسها. بينما الرواية على العكس من ذلك تفتقر إلى المادة بينما لا تعاني مشكلة على صعيد ممكن العلاقات، ذلك أن كل عصر ينوع على حبكة محددة: حبكة الإخفاق في إنزال الرغبات والمثل على أرض الواقع. ولذلك تتعدد المادة وتتنوع، ولا تنضب لأنها رهينة بمدى التخييل، بينما الحبكة هي مصوغة من قبلُ في فضاء علاقة الكينونة بواقع عنيد ومستعصٍ. هذا التمييز له أهميته في تبين الرواية التاريخية، فإشكاليتها نابعة من نقص في المادة الذي يؤول إليها من الرواية الخالصة، ونقص في الحبكة الذي يؤول إليها من جهة التاريخ، ولذلك يكون على كاتب الرواية التي تعالج الحدث التاريخي مهمة مضاعفة، فهو من جهة عليه أن يوجد حبكته الخاصة لما حدث شبيها في ذلك بالمؤرخ، وهذا يتطلب نوعا من التقصي المفضي إلى فهم خاص لما حدث، وعليه من جهة ثانية أن يفكر في مادة أخرى لبناء عالمه إلى جانب المادة التي توفرها المصادر والوثائق. وتمثل هذه المادة المبحوث عنها في جانبين: جانب تخيل حياة خاصة تنتمي إلى الحياة العادية أو الشخصية، ومن خلالها يصاغ ما له صبغة تاريخية، وجانب الموضوعات والأشياء التي تشكل العالم من حيث هو خبرة خاصة. يتبين لنا من خلال هذا البسط أن مسألة الكتابة اليوم عن ما يجري في العالم العربي تتطلب الاختيار بين نمطي الرواية المذكورين: الرواية الخالصة، والرواية التاريخية، ويبدو أن الاختيار الثاني مستبعد لأسباب ذكرناها، وتتعلق بمجملها بقضية المسافة الزمنية المطلوبة تجاه الحدث التاريخي بعد اكتماله. بينما يبقى الاختيار الأول مقبولا وواردا. لكن حتى هذا الاختيار يتطلب شرطين لا بد منهما، أولهما يتعلق بضرورة فهم ما جرى، وثانيهما بمعايشة الحدث على نحو يُمكِّن من فهمه. وأظن أن الشرطين معا لا يتوفران الآن.

3ـ قبل مناقشة مسألة علاقة أسلوب الكتابة بما يحدث الآن بالعالم العربي، لا بد من مناقشة قضية، ألحت علي كثيرا، وأنا أفكر في ما جرى ويجري، وهي الفاعل في هذا الحدث التاريخي الذي يتحين الآن من دون معرفة مصبه على نحو يقيني، وإن كان المنبع معروف. وليس هذا الفاعل جهة منظَّمة معلومة، ولا بجهة اختمرت ونضجت، وإنما حركة هلامية أفقية غير عمودية انبثقت من خارج المؤسسة، ونمت على حواف مجرى نسقي أو عمودي (أحزاب- منظمات المجتمع المدني – مؤسسات الدولة- تجمعات مثقفين)، أو على ضفافه، ختى توقيت فعلها لم يكن متوقعا، ولا يخضع لأجندة مضبوطة. فهي حركة إذن نمت خارج كرونتوب الصيرورة من حيث هي مبنية على قصد سابق، إن قصدها تشكل مع بروزها، وظل يتشكل خلال فعلها. إن هذا الحدث باستناده إلى نوعية فاعل غير مسبوق في تاريخ الممارسة السياسية في العالم العربي يطرح علينا مجموعة من الملاحظات هي كالآتي: 1- تحول الشارع إلى قوة لا يمكن تجاهلها في معادلة ما هو سياسي. 2ـ البرهنة على أن الأشكال التقليدية للتعبير السياسي ليست في مستوى التغيير، فهي عاجزة على تحمل مسؤليتها التاريخية. 3- هشاشة الأنظمة وضعفها، وأن قيامها على الولاءات، لا على بناء مؤسساتي ديمقراطي، هو نقطة قوة في ضمان مصالحها، لكنه قوة ضعف في ضمان استمرارها، 4- إن قوى من قوى النظام مستعدة للتضحية به، حماية لمصالحها، كلما استشعرت أنها مهددة. 5- إن النخبة المهتمة بالتنظير الفكري لم تكن في مستوى الحدث لا من حيث الانخراط فيه بكل قوة (قضية جابر عصفور)، وغير قادرة على فهم ما جرى. 6- هذه النخبة موصوفة بالانتظار والترقب، يتبين ذلك من خلال التريث في بداية الأمر في التعبير عن مواقفها تجاه ما كان يجري، خوفا على مصالحها الضيقة. كما هي اليوم غير قادرة على إبداء رأيها الصريح حول ما ترتب على ما جرى. 6- ركوب هذه النخبة على ما جرى والتهافت على إخراج نصوص تحاول التعبير عما جرى ركوبا على الحدث، وتدعيم شهرتها. 7- تعد هذه النخبة جزء من المشكلة في العالم العربي، فهي ظلت دوما تشكل لوبيات ثقافية ذات صفة احتكارية، حتى تضمن حصر الاستفادة من فتات الأنظمة (جوائز- سفريات- قنوات- مناصب- نشر…الخ) في دائرة محدودة موصوفة بالولاء إلى النواة الصلبة في المجتمع النصي، والتدبير الثقافي. ما الداعي إلى هذا التحليل الذي يبدو وكأنه بعيد عن علاقة الكتابة الروائية بالحدث التاريخي الآني؟ الإجابة بسيطة جدا، وأوزعها إلى جانبين: أولا وسيلة الإنتاج، ثانيا طريقة الإنتاج. ففي ما يخص النقطة الأولى يتلع سؤال إشكالي، لا بد من التفكير فيه. فوسيلة الاتصال التي أنضجت الحراك لم تتحدد في الصحيفة أو المجلة أو الكتاب، بل في وسائل التكنولوجيا الحديثة (التشابكية أساسا). فإلى أي حد التقط المثقف النخبوي التقليدي هذا الأمر أم لا؟ لا تهمنا الإجابة بوصفها إجابة نظرية، ولكن الإجابة بوصفها ممارسة، أي مدى إيمان المثقف بضرورة تغيير علاقته بالقارئ، وبقية المجتمع وبخاصة الشباب الذي ينعت من قبله – على سبيل التهكم – بالشباب الفايسبوكي. ومدى إيمانه بضرورة الانخراط في هذا العالم الافتراضي، وتخصيص جزء من وقته ‘الثمين’ لمحاورة جيل جديد، ومساهمته في شحذ رؤيته، وأسئلته بما يعمق من فهمه لعالمه، وللمهام المطروحة عليه، ومدى قدرة هذا المثقف على تحويل المعرفة في مختلف أصنافها إلى شكل مادي ملموس، وذلك ببسطها، وتبسيطها، وتوصيلها إلى هذا المتلقي الجديد. وفي ما يخص النقطة الثانية، وهي الأهم – بوصفها ذات صلة بموضوعنا-، فالسؤال الذي يطرح نفسه يمثل في الصيغة الآتية ‘هل ما زالت الطريقة التي ألفنا الكتابة بها صالحة لأن تعبر عن هذا الواقع الجديد، وصالحة لأن تخاطب هذا المتلقي الجديد؟’. سؤال لا يتطلب إجابة فورية، لأن الإبداع ليس وصفة جاهزة، وإنما هو صيرورة معقدة. لكن كل صيرورة هي نتاج حركة أيضا من التفكير وصياغة الأسئلة والتصورات. فإذا كان الأمر كذلك، فهل من الجائز التعبير عن واقع متحول (في التباساته المحيرة) بوسائل جمالية ارتبطت بتصورات بنيت في ضوء واقع حقبة تبدو أنها آيلة إلى الأفول، وبرورز حقبة أخرى غير معروفة النتائج. هل يمكن ممارسة الكتابة بالأسلوب نفسه المبني على التجريب استنادا إلى أسئلة النخبة المتجاوزة من دون الأخذ بعين المراعاة الأشكال التي واكبت الحراك في الساحة من أغاني شعبية، ومن سرود، وشعارات، وغرافيك، ونكت، وتبادلات خطابية على صفحات التشابكية. أنا أفهم أن الأمر لا يتعلق بمحاكاة مبتذلة لهذه الخطابات، ولا باستنساخها المشوه والأعمى، ولكن لا بد من التفكير في امتصاص فعاليتها جماليا، فهي خطابات نصف- أدبية، ولها شكل انتظاماتها التي تتحكم في توليدها، ومن ثمة يمكن أن توحي بمبادئ أخرى لبناء النص جماليا. يتبين إذن أن الكتابة حول ‘الثورات’ العربية بهذه السرعة الفائقة من دون أخذ الوقت الكافي للفهم ليست وحدها ما يخلق اتصافا مغلوطا، بل أيضا لا بد من وقت لكي يفكر الأسلوب في نفسه ليجد لذاته الصياغة الملائمة للتعبير. فكل واقع متحول يطرح أسئلة في صدد طريقة التعبير عنه، بل يصل الأمر إلى تغيير الرؤية الجمالية برمتها، وإعادة النطر في الشكل الذي يبنى به الموضوع الجمالي.

أكاديمي وروائي مغربي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى