مؤتمر جنيف وآراء في تسوية المسألة السوريّة/ شمس الدين الكيلاني
شمس الدين الكيلاني
باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في وحدة الدراسات السورية المعاصرة. له العديد من الدراسات الثقافية والسياسية، منها “صورة أوربا عند العرب في العصر الوسيط”، و”صورة الشوب السوداء في الثقافة العربية”، و”صورة شعوب الشرق الأقصى في الثقافة العربية”، و”تحولات في مواقف النخب السورية من لبنان1920 -2011″، و”الشيخ محمد عبده”، و”الإسلام وأوروبا المسيحية القرن 11-16 العود الأبدي”، والعديد من الدراسات الأخرى.
فرض الاتفاق الروسي – الأميركي ثقلًا إضافيًا على فكرة تسوية المسألة السوريّة، ربما سيكون له تبعاته على الأرض بالنسبة إلى المتحاربين؛ فلن يدوم الوقت طويلًا قبل أن يفتح ذلك نقاشًا واسعاً بين الأطراف كافة، بين رجال الثورة ومناصريها ومثقفيها والتكوينات السياسية والفكرية التي تدور في فلكها من جهة، وقد تدفع أصحاب السلطة أيضًا إلى طرح تساؤلات حول حجم التنازلات التي من الممكن أن يقدموها للشعب السوري ولممثليه للخروج بتسوية ما من جهة ثانية. فإذا كان رجال الثورة والمعارضة سيتناقشون في سبل الانتقال من دولة الاستبداد إلى الدولة التعددية المدنية، فإنّ النظام سوف يسعى – كما دل سلوكه في التعاطي مع الأزمة منذ بدايتها – إلى التمسك بامتيازاته ومكتسباته، بما في ذلك إبقاء موقع الرئاسة خارج دائرة النقاش، ومحاولة الحفاظ على دور أجهزة النظام ومصادر قوته.
محاولات في البيت الداخلي
واجه النظام منذ بداية الثورة السوريّة المظاهرات السلمية بالرصاص، وذلك عندما كان المتظاهرون يرفعون شعارات الإصلاح والحرية. وكانت رؤيته الدائمة للثورة وتشخيصه المعلن لها أنّها مؤامرة كونية، وفتنة طائفية، لا أزمة نظام ولا ثورة شعبية؛ فكان أول تصريح لبثينة شعبان مستشارة بشار الأسد “أنها فتنة تريد أن تقوِّض التنوع السوري”. كما دعا بشار الأسد أهل درعا، في أول تعقيب له على تظاهراتها، أن يتعاونوا مع السلطة “لوأد الفتنة”. واستمرت السلطة في نسج روايتها عن الثورة، وفحواها: إنكار وجود أية مشكلة وطنية في سورية أو أزمة حكم؛ فالمسألة برمتها تتعلق بمؤامرة خارجية ومجموعة من الإرهابيين والتكفيريين، سيتكفل رجال الأمن والجيش بالقضاء عليها. أما الإصلاحات فقد قام بها النظام “خير قيام” على طريقته: أحل قانون الإرهاب محل قانون الطوارئ (فانتقل من السيء إلى أسوأ)، وعدَّل الدستور (نقل فيه ما كان لحزب البعث من صلاحيات إلى الرئاسة، وأتاح للرئيس فرصة التجديد لدورتين أخريين)، وأجرى انتخابات برلمانية (عندما كان نصف سكان سورية خارج سلطته!). ومن ثمّ، إذا كان هناك من معارضين فعليهم أن يدخلوا في حوار مع السلطة تحت سقف الوطن (ويعني بها سقف النظام وقوانينه)!
على أساس هذا المنطق النظري المتسق مع الممارسة العملية للنظام، فإنّ أكثر المراقبين والمعارضين السوريين يستبعدون فكرة استعداد النظام للتسوية الجدية التي تفضي للديمقراطية ولإمساك السوريين بمصيرهم اعتمادًا على الحوار؛ فقد استنتج الثوار الميدانيون بعد أشهر قليلة من الثورة أنّه لا خيار أمام الشعب سوى أن يعتمد على نفسه في التغيير. وقد دارت حوارات واسعة في صفوف المثقفين والمعارضين حول مسألة إمكانية التسوية باعتماد الحوار بين السلطة والمعارضة.
رأيان في الحوار الوطني
تبلور رأيان في خضم الثورة السوريّة بحثًا عن الطرق الواجب اتخاذها لتحويل البلاد من نمط الحكم الاستبدادي إلى مرحلة التحول نحو الديمقراطية. أما الاتجاه الأول، فقد استخلصه ناشطو الثورة وقادتها الميدانيون والمثقفون الناشطون الذين برزوا في ساحة المواجهة الشعبية مع الأجهزة، وتيارات سياسية مثل “إعلان دمشق”، وشرائح من المثقفين المستقلين والفنانين وجماعة الإخوان المسلمين. ويذهب هذا الاتجاه إلى أنّ الحوار لا يفيد مع نظام استخدم الدبابات من أول لحظة لمواجهة التظاهرات السلمية، فضلًا عن أنّ النظام في تكوينه وبنيته شبه الشمولية غير قابل للإصلاح. وأما الاتجاه الثاني، فقد اتجه إلى البحث عن تسوية تفاوضية تلتقي في منتصف الطريق مع النظام؛ وتمثّل في المعارضة التقليدية وأبرزها القوى المتبقية من “التجمع الوطني الديمقراطي” بعد انسحاب حزب الشعب وقوى أخرى منه، وبعض أصحاب الاتجاهات اليسارية والليبرالية الذين برزوا في العقد الأخير من الزمن وشكلوا ندوات وتجمعات مدينية تحت يافطة هيئات المجتمع المدني في بداية عهد بشار الأسد، والتي أُجهضت في حينها. فعملت بعض هذه القوى على تشكيل “هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديمقراطي” في أواخر حزيران/ يونيو 2011. قامت الهيئة أساسًا حول حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، الذي كانت عضويته في نهاية الستينيات تُعد بعشرات الألوف وأصبحت هذه الأيام بالمئات، بفعل الاستبداد، والركود الذي ضرب بنيته التنظيمية وتسلسله القيادي، وفشل قيادته في مواكبة الثورة، فالتحقت أغلبية قاعدته في نشاط الثورة، على خلاف القيادة التي ما لبثت أن واجهت تمرد أغلبية هيئاته التنظيمة وصولًا إلى اللجنة المركزية للحزب، والتي أعلنت في نيسان/ أبريل 2012 أنّها “صادقت على البيان الصادر بتاريخ 25/1/2012، القاضي بانسحاب حزبنا من هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي”، واعتبرت أنّ “كل عضو من حزبنا لا زال يعمل مع الهيئة، تكون علاقته بحسب صفته الشخصية”[1]، وأدانت نهج الهيئة برمته. وإلى جانب قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي، اشترك العديد من الشخصيات الوطنية المستقلة، والعديد من اليساريين، بالإضافة إلى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (وهو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي مارس العنف في حلب وعفرين ضد ناشطي الثورة من الأكراد، وسلمه النظام المناطق الكردية التي صعب عليه الاحتفاظ بها، وافتعل صدامات مع الجيش الحر والقوى الكردية الديمقراطية بما فيها المجلس الوطني الكردي) في الهيئة. وقد بادرت الهيئة الى عقد مؤتمرها في حلبون بريف دمشق في أيلول/ سبتمبر 2011، وأعلنت عن استعدادها للبدء بحوار مع النظام لحل الأزمة السياسية العامة في البلاد شريطة: الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وسحب الجيش والقوى الأمنية من المدن والشوارع، والسماح للتظاهر السلمي كحق وضمانة، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور كمدخل لا بد منه لنجاح حوار يفضي إلى صوغ خريطة طريق للانتقال من نظام الحزب الواحد إلى نظام تعددي ديمقراطي. وقد كان يحدوهم الأمل بأن هذا الأسلوب كفيلٌ، إذا صدقت نوايا السلطة، بالتحول السلمي نحو الديمقراطية، وتجنيب البلاد المخاطر والمآسي. وقد أعربت أوساط الهيئة ورموزها القيادية أنّ بقاء بشار الأسد من عدمه ليست مسألة أساسية في صيغة الاتفاق الذي من المفروض أن يفضي إلى التحول الديمقراطي الجذري؛ فقد صرح حسن عبد العظيم “أنّ هيئة التنسيق ليست من المعارضة التي تطالب باستبعاد الأسد من أي حل مستقبلي”[2]. كما عقد مثقفون سوريون مؤتمر سمير أميس في 27 حزيران/ يونيو 2011، دعوا فيه إلى وقف الحل الأمني واعتماد لغة الحوار من أجل مستقبل ديمقراطي لسورية. ثم بادرت السلطة من جانبها إلى عقد مؤتمر للحوار الوطني من دون الدخول في حوارات مع هذا الفريق أو ذاك من أطراف المعارضة؛ فدعت أصدقاءها وحلفاءها من المثقفين والفنانين الموالين من الجبهة الوطنية التقدمية ومن خارجها إلى المؤتمر، وذلك برئاسة فاروق الشرع نائب رئيس الجمهورية تحت اسم “مؤتمر الحوار الوطني الشامل”. أخذ المؤتمر الصفة التشاورية وجرت جلساته في10 و11 تموز/ يوليو 2011، لكنه ظل مناسبة احتفالية يتيمة لم تجر متابعتها.
على الرغم من أنّ تلك المؤتمرات لم تؤدِ إلى نتيجة، وكانت حصيلتها السياسية صفرية، فإنّها أفسحت المجال لاتضاح وجهات نظر صفوف المعارضة. فبرزت في مقابل الاتجاهات الإصلاحية لقوى المعارضة التقليدية، قوى جديدة وقديمة من المعارضة نهضت في مناخ النشاط الشعبي الذي أطلقته الثورة، وفي مقدمتها: قادة الثورة الميدانيون (التنسيقيات، والهيئة العامة للثورة السوريّة، ومجلس قيادة الثورة)، والعديد من الناشطين والمثقفين والمعارضين الذين أجبرهم النظام على الهرب خارج البلاد؛ فعبّروا عن وجهة نظرهم في مؤتمري أنطاليا وبروكسل، وساهموا في تأسيس “المجلس الوطني السوري”.
إنّ هذه القوى – إلى جانب اعتقادها بأنّ السلطة لم تقترح برنامجًا جدِّيًا للحوار واستمرت في اعتماد العنف في معالجة الأزمة الوطنية العامة – ترى أنّ التركيبة الاستبدادية البنيوية للنظام التي هي على النقيض من النظام الديمقراطي، تمنعه من التحول (داخليًا) إلى نظام ديمقراطي تعدُّدي، وأنّ النظام يُعلن جهارًا أنّه لا يعترف بالثورة ولا بالمعارضة، وأنّه اعتمد القوة فحسب في مواجهة الثورة؛ وما إعلانه عن التجاوب مع المبادرات العربية والدولية سوى نهج استخدمه للتسويف والمماطلة، بالإضافة إلى أنّ الشعب لم يعد بإمكانه الجلوس على طاولة واحدة مع رئيس قتل نحو مئة ألف من أبنائه. ورأى هؤلاء أنّه من الضروري كي تنتقل سورية من النمط التسلطي إلى النموذج الديمقراطي للدولة، أن تتحرر مؤسسات الدولة من الأجهزة التي تشكل قاعدة للاستبداد؛ إذ إنّ مسألة الانتقال إلى الديمقراطية ليست مسألة قانونية أو حقوقية فحسب، بل هي مسألة عملية أساسًا. وإذا لم تتبدل موازين القوى بشكل جذري لصالح الشعب – بدلالة ظهور إشارات جدية على تفكك النظام وتراجع ثقته بنفسه، كإعلان الاستقالة، أو الوعد بعدم التجديد – فلن تستطيع قوى المعارضة أن تحصل بالحوار على ما يريده الشعب. فالعقبة الأساسية أمام التسوية تتمثل في رفض النظام أي تسوية لا تُبقي أعمدته وأسسه وآلياته على وضعها، مهما كان الثمن. وفي هذا السياق، عبّر أحد قادة هذه المعارضة بقوله “إنّ المخرج هو في فك الارتباط بين العائلة والنظام، وبعدها يأتي البحث في شروط الانتقال السلمي إلى الدولة المدنية الديمقراطية. عندها يمكن أن يشارك أهل النظام ممن لم تتلوث أيديهم بالدم أو بالمال الحرام”[3].
وبالإضافة إلى هذين الاتجاهين، هناك قوى ضاغطة في المجتمع السوري أثقلتها الأزمة المروعة التي تمر بها البلاد، فغدت ميّالة للتسوية؛ كي يتوقف القتل والتدمير الممنهج. وربما عبَّر معاذ الخطيب، الرئيس المستقيل للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة، عن هذا التوجه الإنساني المفهوم.
سوف يشكل مؤتمر جنيف مناسبة لفرز هذه الآراء بطريقة أكثر حدة، وسيكون بمنزلة اختبار جدي لدعاتها ومناصريها، فهو – في حال انعقاده – سيؤكد أو ينفي مقولات أطراف المعارضة السوريّة بشأن التسوية من خلال تتبع سلوك النظام وطريقة تعاطيه مع القضايا التي سيطرحها المؤتمر والجدية التي سيبديها في التعامل مع السبل التي سيجري استكشافها للخروج من الأزمة. مع ذلك، فالكثيرون لن يكونوا مضطرين بعد عامين من سفك الدماء الى انتظار دليل جديد على عقم الحديث عن تسوية مع نظام لم يدِّخر جهدًا في سبيل إجهاض كل محاولات التسوية.
[1] بيان اللجنة المركزية لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، 15 نيسان/ أبريل 2012، نقلًا عن موقع كتّاب من أجل الحرية، 16/4/2012:
http://www.iwffo.org/index.php?option=com_content&view=article&id=52864&Itemid=11
[2] “حسن عبد العظيم: بقاء الأسد أو استبعاده ليس بيدنا، ونحن لا نطالب باستبعاده”، موقع كلنا شركاء 13/5/2013، نقلًا عن جريدة الرأي الكويتية: http://all4syria.info/Archive/81932
[3] محمد علي الأتاسي، “حوار مع المعارض السوري الأبرز رياض الترك”، 29/7/2011، انظر: http://goo.gl/c8TZv