ماذا تبقى لتركيا من خيارات في سورية؟/ حمزة المصطفى
انتهت زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى واشنطن من دون تحقيق أي اختراق يخفّف هواجس بلاده جرّاء السياسة الأميركية المتبعة في سورية، لا سيما بعد إعلان البيت الأبيض عزمه على تزويد “قوات سورية الديمقراطية”، التي تمثل وحدات الحماية الكردية عمودها الفقريّ، بأسلحة ثقيلة. وبهذا المعنى، فضلت إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، استمرار التعاون مع الوحدات الكردية، لإكمال معركة من دون إشراك تركيا بصورة فاعلة، أو ربما إشراكها بصورة صوريّة، على غرار ما جرى في معسكر بعشيقة في أثناء معركة الموصل ضد تنظيم الدولة الإسلامية، الأمر الذي يثير تساؤلات جوهرية بشأن خيارات تركيا في سورية، على المدى المنظور أو المتوسط.
من الصعب جدًا تقديم إجابات دقيقة عن التساؤلات السابقة، بحكم التغيرات المتسارعة إقليميًا ودوليًا، وامتلاك أنقرة أوراق ضغط مختلفة، تضمن حضورها الدائم في التفاعلات المحيطة بالصراع السوري خارجيًا. لكن ما يمكن معاينته جليًا تراجع الدور التركي في ما يتعلق بالفاعلية الميدانيّة، وافتقادها تدريجيًا التأثير على خيارات الفاعلين المحليين.
لا يخفى على متابع أن الوحدات الكرديّة تسيطر الآن على غالبية مساحة الشريط الحدودي بين سورية وتركيا. ومع أن عملية درع الفرات التي أطلقتها أنقرة، بالتعاون مع فصائل الجيش الحر، في أغسطس/ آب الماضي، نجحت في إفشال مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي الرامي إلى ربط مناطق سيطرته في القامشلي وعين العرب (كوباني) في الشمال الشرقي مع مدينة عفرين، شمال غرب سورية، فإن التنسيق الميداني بين المليشيات الكردية وقوات النظام
“تفقد تركيا ما راكمته من نفوذ داخل سورية، من دون أن يعني أنها أصبحت خارج اللعبة” السوري، بمباركة روسية وعدم ممانعة أميركية، بنى درعًا أمام تقدم “درع الفرات” إلى منبج، وغلقت الأبواب على الفصائل المشاركة، قبل أن تعزل على أعتاب مدينة الباب في ريف حلب الشرقي، إثر رفض الوحدات الكردية الانسحاب من منبج، كما كان متوقعًا في ضوء التفاهمات الأميركية – التركية نهاية عهد أوباما.
على الرغم من الطعنات المتتالية، رضخت أنقرة، في نهاية المطاف، إلى الترسيم القائم لمناطق النفوذ في ريف حلب الشرقي، وأعلنت، أواخر مارس/ آذار الماضي، انتهاء “درع الفرات” في خطوةٍ وقائيةٍ أمام اندلاع مواجهة محتملة مع قوات النظام السوري، قد تطيح التقارب الهش مع روسيا، وتعيد علاقات البلدين إلى سيرتها المأزومة الأولى. عوضًا عن ذلك، فضلت أنقرة المناورة في مساحاتٍ ضيقةٍ على الجبهة الكرديّة، في مسعى منها إلى استجلاء حقيقة الموقف الأميركي، حيث قصفت طائراتها أهدافًا تابعة لحزب العمال الكردستاني في سورية. واستهدفت مدفعيتها مواقع لوحدات الحماية الكردية في الجانب السوري من الشريط الحدودي. لكن هذه الخطوات التي تسارعت في أثناء تحضيرات قمة ترامب – أردوغان لم تؤت أكلها، بعد قرار الإدارة الأميركية الحالية المضي في نهج أوباما السابق بإدارة الظهر لتركيا ومخاوفها، والاستمرار في اعتماد وحدات الحماية الكردية شريكًا رئيسيًا في قتال تنظيم الدولة الإسلامية داخل سورية. أكثر من ذلك، سارعت واشنطن إلى نشر وحدات قتالية ومدرعات أميركية على الحدود السورية التركية، في رسالة ذات مضامين واضحة لأنقرة، بعدم عرقلة الخطط الأميركية في قتال تنظيم الدولة الإسلامية.
خارج حسابات معركة الرقة، برزت أمام تركيا معضلة أخرى في محافظة إدلب، أفقدتها هامش المناورة والتأثير على الفصائل العاملة فيها، فمنذ إجهاز جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقًا) على غالبية فصائل الجيش الحر، وبعض الفصائل الإسلامية، مثل صقور الشام وجيش الإسلام، أواخر شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، أضحت محافظة إدلب تحكمها قوتان عسكريتان هما: أحرار الشام وهيئة تحرير الشام التي أسست أواخر يناير باجتماع فصائل جهادية عدة تحت قيادة هاشم الشيخ المعرّف بأبو جابر.
وقد دأبت هيئة تحرير الشام في الأشهر الماضية على تصعيد نبرتها الخطابية ضد تركيا،
“تواجه “أحرار الشام” تحدياتٍ جمة، بعد انشقاق جناحها “المتشدّد” وانضمامه إلى هيئة تحرير الشام” واتهمت قادتها بمحاولة استنساخ “درع الفرات” في إدلب، للقضاء على جبهة النصرة المدرجة على لوائح الإرهاب الأميركية، بغية استمالة الإدارة الجديدة لإعطائها دورًا أكبر في معركة الرقة. وفي رسالة غير مباشرة، أصدرت الهيئة، أكثر من مرة، بياناتٍ توعدت فيها المشاركين في مفاوضات أستانة بالاستئصال، على غرار ما جرى مطلع العام الجاري، عندما شنت جبهة النصرة هجمات للقضاء على فصائل من الجيش الحر، وبعض الفصائل الإسلامية، مثل جيش الإسلام وصقور الشام. وقد وصلت هذه التهديدات حدًا دفع الهيئة إلى تجميع قواتها بالقرب من معبر باب الهوى والتهديد باقتحامه.
على الطرف الآخر، تواجه “أحرار الشام” تحدياتٍ جمّة، بعد انشقاق جناحها “المتشدّد” وانضمامه إلى هيئة تحرير الشام. ومع أن هذا الانشقاق لم يحدث شرخًا بنيويًا داخل الحركة، فإنه غيّر المعادلات العسكرية القائمة في الشمال. لم تعد جبهة النصرة تنظر إلى حركة أحرار الشام، بوصفها “شريكًا استراتيجيًا”، كما كان سابقًا، بل منافسًا على السلطة والنفوذ والموارد في إدلب وعموم الشمال. وبتوصيف آخر، غدا إضعاف “أحرار الشام” هدفًا استراتيجيًا، تسعى جبهة النصرة إلى تحقيقه بوسائل شتى، ناعمة وخشنة، بغية الاستفراد بحكم الشمال السوري، وإجبار تركيا على التنسيق معها من دون فرض أية شروط.
وأمام واقع طغت فيه المزايدات الجهادية على ما سواها، لم تستجب “أحرار الشام” للمطالب التركية الهادفة إلى حثها على المشاركة في العملية التفاوضيّة في أستانة وجنيف، بحيث تكون الحركة جزءًا من التفاهمات الراهنة والمستقبليّة، وهو ما أظهر أنقرة في موقفٍ ضعيفٍ أمام روسيا بذريعة “عدم قدرتها” على فرض نفوذها على حلفائها.
تفقد تركيا تدريجيًا ما راكمته من نفوذ ميداني داخل سورية، من دون أن يعني ذلك أنها أصبحت خارج اللعبة تمامًا، لكن هامش المناورة بات محدودًا ومرتبطًا بالفاعلين الدوليين. في ضوء ما سبق، تراهن تركيا، في الوقت الراهن، على حاجة الولايات المتحدة إليها في معركة الرّقة، نظرًا إلى عدم قدرة الأكراد على حسمها بعددهم وعتادهم الحالي. وتراهن أيضًا على أن حاجة الفصائل الإسلامية إليها، بحكم الموقع الجغرافي والمساعدات الإنسانية، ستدفعها، في نهاية المطاف، إلى الأخذ بعين الاعتبار الرؤية التركية. لكن، يُخشى من أن يكون مصير الرهانات الحالية على غرار سابقاتها، وأن يتحول المؤقت إلى دائم، كما هو حال الصراعات الأهلية طويلة المدى. حينها، سوف ترسم خرائط جديدة للمنطقة برمتها، وليس لسورية فقط.
العربي الحديد