ماذا تريد الأحزاب المتنافسة في الانتخابات التركية؟/ بكر صدقي
قبل أي اعتبار آخر، تريد الأحزاب المعارضة الرئيسية الثلاثة هزيمة حزب العدالة والتنمية الحاكم في الانتخابات القادمة بعد أيام قليلة. وإذا كانت هذه الأحزاب لا ترفع سقف توقعاتها كثيراً إلى درجة خروج العدالة والتنمية من الحكم، بعد ثلاثة عشر عاماً من تفرده به، فلديها طموحات قابلة للتحقيق من مثل تراجع نسبة التصويت له إلى ما دون الثلاثة وأربعين في المئة، أو اضطرار الحزب الحاكم إلى إدخال «شريك لدود» في حكومة ائتلافية، بما يقلص إلى حد بعيد من حرية حركته في السياستين الداخلية والخارجية.
يشترط الاحتمال المذكور، قبل كل شيء، تجاوز حزب الشعوب الديمقراطي حاجز العشرة في المئة ليتمكن من احتلال نحو ستين مقعداً في البرلمان الجديد، ستخصم بصورة مباشرة من حصة العدالة والتنمية. كما يشترط تحسناً في حصتي حزبي المعارضة التقليديين، الشعب الجمهوري والحركة القومية، أيضاً على حساب الحزب الحاكم.
لتحقيق هذا الهدف المشترك غيرت الأحزاب الثلاثة من خطابها التقليدي القائم على نقد أداء الحكومة والسجال الإيديولوجي مع الحزب الحاكم. فانتقل الشعوب الديمقراطي من خطابه الفئوي القائم على أولوية القضية الكردية إلى خطاب ليبرالي يخاطب مختلف الحساسيات الاجتماعية والثقافية في تركيا، ويركز على موضوع الحريات العامة والفردية التي تآكلت كثيراً، في السنوات القليلة الماضية، بسبب النزوع السلطوي الجامح لدى الرئيس أردوغان بصورة خاصة. وهو يعارض علناً تحويل النظام السياسي القائم إلى نظام رئاسي.
أما حزب الشعب الجمهوري الذي يحل في المرتبة الثانية ـ عادةً ـ في نسبة أصوات الناخبين في عموم البلاد، فقد غير أداءه وخطابه بصورة لافتة في حملته الانتخابية. فقد كان هو الحزب الوحيد الذي أجرى انتخابات داخلية لتحديد مرشحيه إلى البرلمان، مقابل تعيين قوائم المرشحين من قبل قيادات الأحزاب الأخرى. وتراجع خطابه العلماني المتشدد لمصلحة خطاب أكثر انفتاحاً على الحساسيات الدينية، كما على الحساسية الكردية بدلاً من تشدده القومي التقليدي. لكن الجديد الأكثر أهمية في خطاب الحزب إنما هو وعوده الإيجابية في الميدان الاجتماعي – الاقتصادي والتنموي. فإضافة إلى وعوده برفع الحد الأدنى للأجور والرواتب لدى العاملين والمتقاعدين، طرح الحزب مشروعاً تنموياً طموحاً من شأن تنفيذه وضع تركيا في قلب حركة التجارة العالمية بين آسيا وأوروبا.
لا يبدو حزب الحركة القومية المتشدد بقيادة دولت بهتشلي، بالمقابل، مهتماً بطرح مشروعات طموحة يشترط تنفيذها صعوده إلى السلطة أو مشاركته فيها. بل يطغى الجانب السلبي أكثر على خطابه. فهو يسعى إلى شد قاعدته الاجتماعية ورفع حصته من مقاعد البرلمان من خلال تشدده في مواجهة مشروع السلام التركي – الكردي واحتمال إطلاق الحكومة سراح زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجالان مقابل تمرير الحزب الكردي تغيير الدستور باتجاه النظام الرئاسي الذي يريده الرئيس أردوغان.
بهذا المعنى، تتعلق أنظار الجميع، مرة أخرى، بالنتيجة التي سيخرج بها حزب الشعوب الديمقراطي من الانتخابات القادمة. فإذا اجتاز حاجز العشرة في المئة ودخل نوابه البرلمان، تبخرت أحلام أردوغان في النظام الرئاسي الذي يجمع بين يديه كل السلطات التنفيذية. وفي هذه الحالة يبقى أمامه مخرج وحيد يتمثل بشراء أصوات نواب الحزب الكردي لمصلحة تغيير الدستور، مقابل تنازلات جوهرية للشريك الكردي قد يكون في مقدمتها إطلاق سراح أوجالان.
ولكن ماذا عن تعهد رئيس حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دمرتاش بالوقوف في وجه طموحات أردوغان السلطوية الجامحة من خلال منع التغيير الدستوري؟ علينا ألا ننسى أن هذا الحزب لا يعدو كونه واجهة سياسية للعمال الكردستاني، وليس بوسع دمرتاش أو غيره مخالفة تعليمات أوجالان الذي يتمتع بكاريزما قوية لدى القاعدة الاجتماعية للحزب الكردي. سيشكل تراجع الحزب المفترض هذا عن وعوده بعدم تمرير التعديل الدستوري، طعنة كبيرة في مصداقيته التي اكتسبها بمشقة لدى قطاع من الرأي العام التركي أوسع من قاعدته الكردية المحضة. لكن السياسة لا تعترف بالمبادئ والوعود أمام ضغط المصالح والنزعة البراغماتية.
أما إذا فشل الحزب الكردي في تجاوز حاجز العشرة في المئة، فسوف يخلق هذا ديناميات أخرى في المشهد السياسي التركي وتفتح الباب أمام المجهول. خيبة الأمل التي ستسود لدى كرد تركيا من النظام السياسي الذي طالما همشهم، ستدفع بهم إلى اتجاهات أكثر تطرفاً. ويدور الحديث في الأوساط الكردية اليوم عن إنشاء برلمان كردي وإعلان الإدارة الذاتية من جانب واحد. هذا التحدي الذي لا يستبعد أن تواجهه الحكومة القادمة بالقمع العاري، بما يعيد تركيا إلى عنف التسعينات الذي لا يريد أحد أن يستعيد مناخاته.
الأمر أكثر تعقيداً فيما يتعلق بما يريده حزب العدالة والتنمية نفسه من نتائج الانتخابات القادمة. فهو يعيش، هذه الأيام، أكثر أوقاته صعوبة منذ وصوله إلى الحكم قبل ثلاثة عشر عاماً. لا جدال في أنه يريد الاحتفاظ بالحكم من خلال غالبية مريحة. لكن كل شيء يتباين بعد ذلك بين مختلف أركان الحزب. هناك قبل كل شيء نوع من الصراع الخفي بين رئيس الجمهورية أردوغان ورئيس الحكومة داوود أوغلو بسبب تنازع الصلاحيات. فالرئيس المفترض أنه استقال من الحزب حين انتقل إلى منصب رئاسة الجمهورية، ما زال يتحكم بالحزب ويريد استخدامه لتحقيق طموحاته الشخصية المتعلقة بالنظام الرئاسي. ومنذ انتقاله إلى منصبه الجديد تصرف عملياً كرئيس للحكومة، تاركاً خلفه داوود أوغلو في ظله. وبمشاركته الفعالة في الحملة الانتخابية، سيجني أردوغان ثمرات النصر الانتخابي للحزب، إذا تحقق، ويحمّل داوود أوغلو مسؤولية الهزيمة، إذا هزم.
كذلك يرصد المراقبون تململاً داخل أركان الحزب من سطوة أردوغان، وقلقاً على مستقبله بسبب تحوله إلى مجرد أداة لطموحات الرئيس، ويلاحقهم كابوس مصير حزب الوطن الأم الذي تلاشى من المشـــهد الســــياسي بعد صعود تورغوت أوزال إلى منصب الرئاسة. يضاف إلى كل ذلك تلك الحرب الضارية التي ما زال الرئيس يخوضها ضد جماعة فتح الله غولن، وتسببت بشقاق لا يمكن ردمه في بيئة التيار الإسلامي العريض، من المحتمل أن تؤثر على قرار الناخب التقليدي المتدين للحزب الحاكم.
القدس العربي