ماذا فعل النفط بروسيا؟/ فلاديسلاف إينوزيمتسيف
منذ 1999 بلغ حجم صادرات روسيا من النفط والمنتجات النفطية من مجمل الصادرات حوالى 69 في المئة. وبلغت عائدات روسيا من هذه الصادرات 1.8 تريليون دولار على الأقل، وبلغت مع عائدات الغاز حوالى 2.1 تريليون دولار. اليوم، إثر هبوط أسعار النفط، يلح سؤال: هل عاد الذهب الأسود بفائدة على روسيا أم لا؟
خلّف الذهب الأسود أثراً بالغاً في الحياة السياسية الروسية. وفي الإمكان تقسيم هذا التأثير إلى ثلاث مراحل أدت أسعار النفط دوراً بارزاً في رسم معالمها. والأولى هي مرحلة «بوتين الأوروبي»، وكلمته أمام البوندستاغ (البرلمان الألماني)، ومحاولة تشكيل حلف «باريس – برلين – موسكو». هذه المرحلة دامت 4 سنوات بلغت فيها عائدات النفط 133.7 بليون دولار، وهو رقم أقل من العام 2005 وحده (153.6 بليون دولار).
ومع ارتفاع الأسعار في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، صار جلياً أنّ ضابط الـ «كي جي بي» السابق، فلاديمير بوتين، متمسك بهذه الثروة. وفي 2003، سجن ميخائيل خودوركوفسكي. وفي 2005 أعلن بوتين أنّ انهيار الاتحاد السوفياتي كان «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين»، وفي 2007 من ميونخ رسم بوتين للغرب حدوده.
والمرحلة الثانية هي مرحلة «تطهير» الساحة السياسية الداخلية، وإطاحة الديموقراطية الروسية الطرية العود، وبعث النظام الحزبي الذي ألفه بوتين في ألمانيا الشرقية، وتأميم أكبر عدد ممكن من الشركات العاملة في قطاع الخامات. وفيما انتهكت الأصول المرعية في الساحة الداخلية، تجنب بوتين في الساحة الخارجية الانزلاق إلى أخطاء فادحة. في هذه المرحلة (2005-2008) بلغت عائدات النفط 894.4 بليون دولار أي أكثر من ستة أضعاف المرحلة الأولى.
أمّا المرحلة الثالثة فامتدت بين 2011 و2014. وبوتين في «أوقات سعر برميل النفط ما فوق 100 دولار» هو بوتين القرم والدونباس الذي لا يملي عليه أحد شيئاً لا في الداخل ولا في الخارج. فعائدات النفط بلغت بين 2011 و2013 حوالى 1.3 ترليون دولار، أي ضعف ما كانت عليه عام 2008. وارتفاع سعر النفط نفخ عائدات النخب السياسية المحلية، فحسبت أنّ كلّ شيء مباح: تغيير متكرر لقواعد الانتخابات، واستنساب في احترام حقوق الملكية الخاصة وحتى الحدود الدولية.
والسؤال اليوم هو: هل كان تجنب ذلك ممكناً؟ بعضهم يجيب بالإيجاب، ويضرب المثال على ذلك النروج أو الولايات المتّحدة حيث وفرة كميات النفط لم تؤد إلى «مضاعفات» روسية (فساد وعدوان خارجي وانهيار اقتصادي). وبعضهم الآخر يشير إلى نماذج أخرى مثل إمارات الخليج التي تحولت جنات مالية وسياحية ومحطات للترانزيت، ومصدر جذب للأثرياء والناجحين من أصقاع المعمورة. وبعض ثالث يرى أنّه لم يكن ممكناً تجنب هذا، ويعتبرون أنّنا أقرب إلى دول مثل نيجيريا وفنزويلا وأنغولا: إدارات غير ناجعة وافتقار إلى المساواة الاجتماعية وحماقة بيروقراطية. والرأي الأكثر شيوعاً هو أنّ الديموقراطيات تنجح في جبه المشكلة، فيما تخفق الأنظمة الأوتوقراطية. لكن غياب الديموقراطية في الخليج لم يمنع دوله من التطور والنمو. وثمة من يلقي باللائمة على تباين في الإدارة بين القطاعين العام والخاص، لكن الشركة النفطية الأكثر فعّالية في العالم هي «أرامكو» السعودية، وملكيتها تعود إلى القطاع العام.
افتقار الحكومة إلى حس المسؤولية يبرز في دول يبلغ فيها أشخاص سدة السلطة في شكل عشوائي. وعلى سبيل المثل، بعد 10 انقلابات عسكرية خلال 50 عاماً من الاستقلال، يضع حاكم نيجيريا أمنه الشخصي قبل مستقبل البلاد. وهل يمكن أن ننتظر حلولاً استراتيجية من سائق الحافلة الذي أصبح، بين ليلة وضحاها، رئيساً لفنزويلا أو من عقيد في «كي جي بي» كان في المكان المناسب عام 1999؟
والدول النفطية انتهجت نموذجين، الأول يرجح كفة النمو والثاني كفة عقيدة «الصمود» (والمقاومة). وخير مثال على النموذج الأول هو الإمارات العربية المتّحدة. ففي عام 1981، شكل النفط 93 في المئة من عائدات إمارة دبي. أمّا اليوم فهو أقل من 9 في المئة. وفي العقود الماضية قامت الإمارة بتنويع اقتصادها ومصادر عائداتها. إذ أنفقت عائدات النفط في العقدين الأخيرين ( 750 بليون دولار) على بناء وتطوير البنى التحتية والمطارات والمرافئ والطرقات ومراكز التعليم. وفي النروج، بادرت الحكومة إلى إنشاء صندوق دعم خاص لإدارة عائدات النفط لحماية مصلحة الأجيال القادمة. وتبلغ أصوله اليوم 893 بليون دولار.
أمّا النموذج الثاني فمن أعلامه فنزويلا حيث أدت الثورة في 1999 إلى تدهور كارثي للبلاد. وتشير الإحصاءات إلى أن الناتج المحلي الفنزويلي اليوم هو أقل بـ25 في المئة عما كان عام 1977. أمّا حجم الإنتاج فانخفض من 180 مليون برميل عام 1998 إلى 135 مليوناً اليوم. وقد تلقى روسيا المصير نفسه.
وتواجه روسيا خياراً صعباً. ساهم ارتفاع أسعار النفط خلال السنوات الـ15 الأخيرة، في توفير رفاهية غير مسبوقة في المراحل التاريخية السابقة. لكن المشكلة أنّ معدل النمو الأقصى في عهد بوتين لم يسجل في قطاع الصناعة – على ما هي الحال في البلدان النامية العادية (كوريا الجنوبية والبرازيل والصين) – بل في قطاع البيع بالتجزئة (ارتفعت قيمة التداول فيه 12 مرة)، قطاع المطاعم (17 مرة)، وقطاع الاتصالات الخليوية (نما عدد المشتركين 97 مرة). كل هذا ليس دليلاً على هدر الثروة النفطية فحسب، ولكن على أن قسماً كبيراً منها وصل إلى المستهلكين العاديين الذين ارتفع مستواهم المعيشي بسرعة قياسية. هذا أمر جيد، ولكن ما العمل اليوم بعد انخفاض أسعار النفط ؟ وروسيا لم تختر بعد طريقها نحو التنمية أو «الصمود».
المشكلة الرئيسية في روسيا هي أن القانون لا يقضي بتسليم قطاع الطاقة إلى الدولة، ولكنها، بحكم الأمر الواقع، تمسك بمقاليده. وتحول هذه الحال دون نقل كامل عائدات الشركات النفطية إلى موازنة الدولة من أجل الاستثمار وإنشاء «صناديق للأجيال القادمة» وتطوير المبادرات الريادية في القطاعات الأخرى. وتفتقر موسكو إلى سياسيين قادرين على إدارة موارد الطاقة بما يخدم مصلحة الدولة والمواطنين. ورجال الأعمال ينشطون في أروقة السلطة. ولذا، تهيمن المصالح المالية الخاصة على التنمية الاقتصادية. ولا يسع روسيا أن تنتهج سياسات تنموية ولا أن ترسي الاستقرار لأنها لا تملك الاحتياطات الكافية لاسترضاء السكان ولا آلية تحرك عجلة النمو الاقتصادي في قطاع غير نفطي. ويبدو أن خلاص روسيا عسير ومتعذر جراء دمج السلطة بالتجارة لمدة ربع قرن.
* مدير مركز دراسات المجتمعات ما بعد الصناعيّة، عن «فيدوموستي» الروسيّة، 16 و 22/12/2014، إعداد علي شرف الدين
الحياة