ما بعد الأزمة السورية من منظور اقتصادي سياسي
زياد حافظ
إذا كانت المعركة القائمة في سوريا ستحدّد معالم النظام العالمي الجديد، فإن الهم القومي العربي يركّز الآن على بقاء سوريا وإيقاف إراقة الدماء. فسوريا تُستنزف على كل الأصعدة، وهذا هو المخطط المعادي لسوريا ولما تمثّله على الصعيد القومي والقوى الممانعة للمحور الغربي الصهيوني. والحل لن يأتي إلا من داخل سوريا وعبر مصالحة وطنية شاملة (وهي أصعب من الحلّ السياسي) وحد أدنى من التفاهم العربي على وقف إراقة الدماء. هذا ما أوصت به المبادرة الشعبية التي ضمّت شخصيات عربية قومية وإسلامية تحاورت وما زالت مع كل من أركان القيادة في سوريا ورموز المعارضة الوطنية السورية غير المرتبطة أو ملتزمة بأجندات خارجية. فهذه المبادرة تتطلّب المزيد من الجهود والمثابرة للوصول إلى التسوية التاريخية للأزمة الوطنية في سوريا.
وإذا كان التركيز هو على الناس، إلا أنه أيضا من الضروري الانتباه إلى الواقع الاقتصادي الحاضر والمستقبلي. وبالنسبة لنا، الواقع الحاضر يؤسس لواقع المستقبل إذا ما اتخذت الإجراءات اللازمة. صحيح أن سوريا مرّت بأزمة حادة في قطاع النقد الأجنبي وسعر الصرف، إلا أنها تجاوزتها تجاوزا مقبولا. وربما أسست لحقبة مستقبلية أكثر إيجابية بسبب الخفض النسبي لسعر صرف الليرة السورية الذي يشجّع تنمية الصادرات الزراعية والصناعية. كما أنها أعادت الاعتبار إلى التركيز على تنمية القدرات الإنتاجية البعيدة عن مظالم الاقتصاد الريعي الخدماتي الناتجة من سياسات سابقة.
لكن نعتقد أن مستقبل سوريا يكمن ضمن محورين متلازمين: الأول هو عبر الاستفادة من الأزمة لإعادة هيكلة التمركز الاقتصادي في سوريا والمحصور عامة في مدينتي دمشق وحلب نحو اللامركزية الاقتصادية. فإذا أصبح الشرق جهة التوجه السياسي الاقتصادي لسوريا، فمن المفيد تنمية المناطق أو المحافظات الأقرب للسوق العراقي والإيراني. ففوائد إعادة هيكلة القطاعات الإنتاجية والاستثمارات في المحافظات الشرقية للبلاد تساهم أولا في تنمية تلك المناطق وتخلق ثانيا فرصا للعمل وتخفّف من التمركز في دمشق وحلب وما يشكّله من ضغط سكّاني واجتماعي في المدينتين. كما أن التمركز الحالي يزيد الانكشاف الوطني والقومي إذا شُلّت المدينتان. فاللامركزية في توطين مراكز الإنتاج تقلّل من المخاطر أسوة بتوزيع المخاطر في أي محفظة استثمارية.
وهنا يدخل المحور الثاني وهو ما سبق أن أعلانّاه في العديد من المقالات والكتب والمحافل ونكرّره أن مستقبل التنمية في سوريا لا يمكن أن يتوقف عند الحدود الموروثة من الحقبة الاستعمارية. فإذا كنّا نعيش في عصر التكتّلات الاقتصادية الكبيرة فلا بد من أن ندفع لتأسيس تكتّل اقتصادي سياسي يجمع بين بلاد الشام وبلاد الرافدين.
الخطوة الأولى تكمن في تشبيك البنى التحتية من طرق وطاقة وغاز وسكك حديد ومواصلات وشبكات الموارد المائية التي تطال كل المحافظات في بلاد الشام والرافدين. هذا التوجّه يفتح آفاقا جديدة للمزيد من الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية مستفيدة من فضاء اقتصادي أكبر يحقّق وفورات الحجم للاستثمارات الكبيرة. كما أنه يؤسس لشبكة المشاريع الصغيرة التي تقوّي النسيج الاقتصادي والاجتماعي وتستوعب قسما كبيرا من البطالة.
الخطوة الثانية ناتجة من خطوة التشبيك. وهي تنسيق سياسات الطاقة والموارد المائية لتحقيق الأمن الطاقوي والمائي لبلاد الشام والرافدين. وهنا نذكّر بأن الهجوم واحتلال العراق والحرب القائمة على سوريا كان سببهما الطاقة: النفط في العراق والغاز في سوريا. التنسيق هنا ضرورة حيوية للأمن القومي العربي. نذكّر بأن الخطوة الأولى لتحقيق الوحدة الاقتصادية الأوروبية كانت إنشاء المجموعة الأوروبية للفحم والفولاذ في الخمسينيات من القرن الماضي. فالمادتان كانتا العمود الفقري للقطاعات الصناعية في أوروبا والمرتكز لإعادة إعمار الشق الغربي للقارة التي دمّرتها الحرب العالمية الثانية. لذلك نقترح إنشاء المجموعة العربية للطاقة والمياه في بلاد الشام وبلاد الرافدين. وقطاع الطاقة يضم النفط والغاز والكهرباء والطافة النووية التي لا بد لبلاد الرافدين أن تكتسب معرفتها وإنتاجها.
الخطوة الثالثة تكمن في تنسيق السياسات النقدية والمالية لدول بلاد الشام وبلاد الرافدين. هذه الخطوة سياسية كما هي اقتصادية وقد تصطدم بالمصالح الريعية للفئات المستفيدة من الوضع الراهن والتي لا ترى أي فائدة من بذل مجهود لتنمية القدرات التنافسية مع الدول الأخرى سواء في الإقليم أو خارجه. لذلك إعادة هيكلة الاقتصاد في بلاد الشام وبلاد الرافدين تتطلّب إعادة هيكلة سياسية للنخب لتواكب التوجه المقترح. والنتيجة التي يجب أن تصل إليها هذه الخطوة هي إنشاء نقد موحد في فضاء اقتصادي أكبر.
الخطوة الرابعة هي تحرير حركة العمل والعمّال بين أقطار بلاد الشام والرافدين ورفع القيود القائمة. فالثروة الحقيقية والأهم هي العنصر الإنساني. ففي حركة الإنسان وتنقله تحقيق لمشيئة إلهية: “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” (الحجرات 13). ولهذه الحركة الحرّة فوائد كثيرة تفوق السلبيات الوهمية التي يتصوّرها أصحاب المصالح الضيّقة. حرّية الحركة تخلق فرصا وآفاقا جديدة وتأتي بأفكار وإبداعات تغني الجميع، سواء على الصعيد الفكري أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، وكل ذلك يحقّق المشروع العربي النهضوي الذي نتوخّاه.
الخطوة الخامسة تكمن في تنسيق البرامج التربوية في بلاد الشام والرافدين لتأسيس منظومة معرفية ناتجة من تراثنا وواقعنا وتؤهلنا لمواجهة تحدّيات المستقبل. جدودنا أنتجوا معرفة ما قبل الإسلام وما بعده ونقلوها للعالم بأسره. واليوم نواجه تحدّيا كبيرا في إيجاد تلك المنظومة التي سينتج منها أدواتنا التحليلية في مقاربة الواقع وتحضير المستقبل. والبرامج التربوية المنشودة لتحقيق المنظومة المعرفية تقوم أولا على تشجيع العلوم عامة، بما فيها العلوم النظرية والعلوم الاختبارية وإنفاق ما يوازي خمسة بالمئة من الناتج الداخلي على البحوث والمختبرات وتشجيع براءات الاختراع.
الخطوة الأخيرة هي الشروع في وحدة سياسية تحصّن الأقطار أمام أطماع أعداء الأمة. أما شكل هذه الوحدة فتقرّرها جماهير الأقطار. نرى أن على النخب الحاكمة وغير الحاكمة في بلاد الشام وبلاد الرافدين أن تعيد إدخال مصطلح “الوحدة” في قاموسها السياسي. فـ”الوحدة” ليست شتيمة ولا ندري لماذا التحفّظ على تداولها. فالرد الاستراتيجي على مؤامرات التمذهب والتفتيت هو الوحدة. ونعتقد أن الشرعية الحقيقية لأي منظومة حاكمة أو طامحة للحكم تُستمد ليس من صناديق الاقتراع بل من عملها على تحقيق الوحدة. والوحدة هي الطريق الصحيح لفلسطين والقدس. الخريطة واضحة وما علينا إلا العمل من أجل تحقيق طموحات جماهيرنا في مجتمع الكفاية والعدل وتكافؤ الفرص.
الأمين العام للمنتدى القومي العربي
السفير