«ما بعد الواقع»: في الردة عن التنوير/ رشيد بوطيب
تحول مفهوم «السياسة ما بعد الواقعية» أو «ما بعد الحقيقة»، إلى محدد للفعل والفكر السياسيين في السنوات الأخيرة، والذي يعني خصوصاً أن السياسة لم تعد تتمحور حول الوقائع. فحقيقة رأي سياسي ما، لم تعد مرتبطة بالواقع، بقدر ارتباطها بمصالح الفئة التي يعبر عنها هذا الرأي. فلم يعد التواصل السياسي يقوم على أسس إيتيقية، ومنها لا ريب، ارتكازه على وقائع يمكن الاستدلال عليها كما بيّن هابرماس، بل في زمن سياسة «ما بعد الحقيقة»، تعمد الآراء السياسية المتصارعة إلى تمييع الوقائع والتحايل عليها، لأن الأساسي في مثل هذه السياسة هو دغدغتها لعواطف الجمهور.
إنها سياسة كنا نعرفها في الدول التوتاليتارية ومن دول العالم الثالث، ولكن ما بعد الواقعية هذه أصبحت جزءاً من السياسة الداخلية والخارجية للدول الديموقراطية أيضاً. ومن أوائل الباحثين الذين استعملوا مفهوم «ما بعد الواقع» عالم التواصل الأميركي كارل بايبي في بحث مطول يحمل عنوان: «هل يمكن الديموقراطية أن تعيش في العصر ما بعد الواقعي» (صدر في 1999).
يكتب في مقدمته بأن الافتراض الذي عمر طويلاً والذي كثيراً ما يتكرر داخل النظريات الليبرالية للصحافة، يرى أن الديموقراطية الحديثة ترتكز على أساس المواطن المستنير، والذي يتخذ القرارت على أساس معايير عقلانية وموضوعية، وأن وسائل الإعلام ربما تكون أهم مصدر لهذه المعلومات. لكن هذا الافتراض أخذ بالتآكل، ويبدو برأيه أننا انتقلنا إلى عصر ما بعد الواقع، حيث اختفت برأيه الحدود بين الواقع والخيال، وقد نقول بين الخبر والبروباغندا.
وتجدر الإشارة هنا بأن العنوان الفرعي لبحث بايبي يذكر بالنقاش الذي دار خلال العشرينات بين الكاتب والصحافي والتر ليبمان والفيلسوف جون ديوي حول الدور المنوط بالصحافة في الديموقراطية. كان ليبمان يشكك بقدرة المواطن العادي على الحكم الذاتي العقلاني، ولهذا دافع عن منعطف نحو العلم الوضعي، ليس فقط للصحافة بل للنظام الديموقراطي ككل، مؤكداً أن هذه الديموقراطية الجديدة التي يتوجب إعادة اختراعها ستقوم على شكل من المعرفة يتجاوز الذاتية والسياسات، إنه العلم. لكن ديوي أكد أن العلم وحده لن يستطيع حل أزمة الذاتية الفردية وأزمة الديموقراطية، مؤكداً أن العلم يعيد في صيغته الوضعية إنتاج البناء الميتافيزيقي الذي قام ضده. إن الوضعية بنظره، والتي تعتقد بأن العلم خارج تأثير أو مراقبة الناس، لم تقدم دليلاً على ذلك، وبالنسبة إليه، إن العلم علم بشري دائماً، والزعم بأن العلم وحده من يستطيع حل أزمة الذاتية والديموقراطية، لا يفعل أكثر من تجنب مجابهة هذه المشكلات أو التغطية عليها. والجواب عن هذه المشكلات، يرى ديوي، لن يكون عبر تكوين أرستقراطية ثقافية باسم العلم، وهو ما نشهده اليوم لا ريب مع الصعود اللافت للتكنوقراط وانتشار ثرثرة المتخصصين في كل مكان، بل إن الحل يكمن في إحياء قوة الرأي العام، حتى يستطيع الدفاع عن مصالحه وإسماع صوته، الذي يتم اليوم تمييعه على أكثر من مستوى.
يصف «ما بعد الواقع» أو «ما بعد الحقيقة» وضعاً اجتماعياً، لم تعد الوقائع الموضوعية تلعب فيه دوراً في النقاشات السياسية وفي تكوين الرأي العام، لأن مجموعات كبيرة من الشعب متشبثة بأن الحقيقة، كما تشعر بها، لا تتطابق مع الواقع، بل بأن الوقائع ليست في الأصل وقائع، إنها منتوج صحافة الكذب، وهي المجموعات نفسها التي سيتعهد اليمين الشعبوي بدغدغة مشاعرها وتجنيدها ضد الديموقراطية والمجتمع المتعدد. لكن «ما بعد الحقيقة» تعبر من جهة أخرى عن لا مسؤولية معرفية، لأنها لا تسمح باختبار صحة الحقائق، فالحقائق أضحت سابقة على كل معرفة، بل وعلى كل واقع.
لكن، هل يمكن الحديث عن الديموقراطية في غياب إمكانية امتحان مدى صحة الآراء والحقائق؟ أوليست الديموقراطية بنظام تخضع فيه السلطة للاستدلال، كما بين هابرماس، وليس الاستدلال للسلطة؟ وأي خطر تمثله سياسات ما بعد الواقع على المجتمع المتعدد، خصوصاً إذا ألقينا نظرة على «الحقائق» التي ينشرها اليمين واليمين المتطرف في بلد مثل ألمانيا مثلاً، من أن ألمانيا مثلاً ليس بلد هجرة، على رغم أن ما يعادل عشرين في المئة من سكان هذا البلد من أصول مهاجرة؟
* كاتب مغربي
الحياة