صفحات العالم

ما بين التقدم و التراجع.. الأسد يحدد استراتيجيته

 

 

عمل الرئيس السوري منذ أن بدأت الحرب عام 2011 على التقليل من ظهوره العلني إلى أدنى درجة بسبب التهديدات التي طالت سلامته الشخصية، ولكنه بالطبع حافظ على ظهوره في بعض المناسبات الدعائية كذهابه إلى خطوط الجبهات الأمامية في دمشق، وزياراته لأطفال الجنود الذين قتلوا في الحرب، إضافة لمقابلات إعلامية عدة خلال فترات قصيرة يليها فترة من الصمت المتجدد، يأتي بعده خطب عامة تعقد غالباً في التواريخ الهامة والمناسبات الرسمية.

بينما في هذه المرة ظهر الرئيس من دون علم مسبق، حيث قطع التلفزيون السوري بثه لبرامجه المعتادة في 26 يوليو/تموز- ليعلن عن خطاب للرئيس، وقد عقد الخطاب في قصر الشعب في دمشق أمام جمهور من البعثيين المواليين واستمر لأكثر من ساعة، ويعتبر هذا الخطاب من أهم خطبه السياسية العلنية والأكثرها جدلية منذ اندلاع الحرب في ربيع 2011 (إذا كنت تتكلم العربية فإنك تستطيع مشاهدة تسجيلات الفيديو أو قراءة النسخة الرسمية، وهناك أيضاً نسخة انكليزية رسمية ولكنها لم تكتمل بعد).

وقد تضمن معظم الخطاب كلاماً معتاداً صور فيه الرئيس الصراع على أنه ما بين الشعب والجيش (وكلاهما تحت قيادته) ضد الخطر الإرهابي الخارجي،  ووصف معارضوه هذا الكلام بالباطل المطلق حتى مؤيدوه اعتبروه تبسيطاً للواقع، ولكن هذا لا يهم، فالخطاب البعثي كان دائما قصيرا بفوارق طفيفة في معاني الكلمات، وينظر إليه من الداخل السوري على أنه خطاب لنظام منفرد بالسلطة أودى بنفسه إلى الهاوية، وهذا على الغالب سبب ظهور المشكلة، وهو لا يختلف بأي درجة عما تقوم به المعارضة السورية من عملية خداع ذاتي.

الوضع الكئيب

لم يتضمن محتوى الخطاب البعثي محاولة استلهام الخطاب الغربي “مكافحة الإرهاب”، ولا على النزعة القومية الانفعالية بل كان الخطاب مهتماً أكثر بمناقشة النكسات التي تسبب بها جيشه بعد التقدم في 2014، حيث ضعفت قوة الحكومة بحلول الشتاء تزامناً مع بدء تداعي الاقتصاد و تلقي المعارضين دعماً إضافياً، وفي ربيع هذا العام، تراجعت شعبية الأسد نحو الأسوأ.

أما في مارس -آذار- فقد أجبرت قوات الأسد على تسليم محافظة إدلب إلى الثوار فضلاً عن مدينة بصرى الشام شرق درعا، وكذلك خسر جيش النظام في أبريل -نيسان- آخر موطئ قدم حقيقي له في مدينة إدلب، إضافة لأريحا و جسر الشغور. كما خسروا أيضاً ما تبقى من الحدود المشتركة مع الأردن بالطريقة نفسها، وتم قطع طريق التجارة البرية. وفي مايو -أيار- قامت جماعات متشددة تعرف باسم الدولة الإسلامية بالاستيلاء على منطقة السخنة ومدينة تدمر الاستراتيجية، وعزل مدينة دير الزور ثم بدأت بعد ذلك بمصادرة وتدمير أجزاء من البنية التحتية للطاقة في سوريا. كما قامت مجموعة من المعارضة المعتدلة بالاستيلاء على قاعدة مهمة للجيش في جنوب محافظة درعا، على أن عملية السيطرة على باقي مدينة درعا وصفت بالمماطلة. و تلقى نظام الأسد صفعات قاسية في الحسكة من الجهاديين الإسلاميين رغم أن جيشه كان قد عقد هدنة مع المقاتلين الأكراد المحليين.

وقد حققت الحكومة تقدماً في بلدة الزبداني عالحدود السورية اللبنانية بدعم من ميليشيات حزب الله الشيعية، ولكن الوضع الآن يبدو قاتماً بالنسبة للأسد، حيث أن معظم القوات في الجيش العربي السوري تم دعمها بالمزيد أو استبدالها بميليشيات، ومع ذلك مازالت القوات الموالية للأسد تنتشر بدقة خطيرة على الأرض. وستقوم إيران اليوم بثقة كبيرة بعد أن تم التوقيع على اتفاقها النووي مؤخراً بدعم الاقتصاد  السوري بعقد قدره بليون دولار، وبرغم ذلك مازال الأسد يحاول ببساطة السيطرة على مناطق تفوق قدراته في الدفاع عنها .

حان وقت التخلي عن خسائرك

بعد سقوط إدلب في آذار هذا العام تضاعفت التقارير الداخلية والإيرانية، للضغط على الأسد للتخلي عما خسره والتقليل من الجبهات والانسحاب إلى خطوط المواجهات، والقبول  بشكل من أشكال التقسيم المقترحة لسوريا. و كانت الفكرة، بغض النظر عن طريقة تقديمها، هي التخلي عن الأراضي السورية، هذه الأراضي التي لا أحد يستطيع تخمين لمن ستكون، وفيما إذا سيتمكن الأسد من القيام بشيء آخر غير تقبل خسارة إدلب، أو هل سيتخلى كلياً عن المناطق المحاصرة في المنطقة الشرقية كدير الزور والحسكة أو حتى درعا في الجنوب، حتى أن البعض يتكهن بأن الأسد قد يفكر بالتراجع عن جائزته الكبرى في الشمال، وهي مدينة حلب، والتي بدونها سيواجه مشكلة كبيرة في  إقناع حتى أكثر المتعاطفين معه بأنه الرئيس الفعلي لكامل سوريا.

ولمعالجة هذا الموضوع كان على الأسد أن يمشي بخطى حذرة خوفاً من نشر الذعر أو تنفير بعض الذين قاموا بانتخابه، أما كلامه أن  كل جزء في سورية هو جزء غالٍ ولا يقدر بثمن، وأن كل بقعة تتساوى من حيث الأهمية الجغرافية والديموغرافية مع باقي البقع، فلم يكن يهدف إلا للعودة السلسة إلى الوراء، حيث أنه أضاف قائلاً: إن للحرب على أية حال ظروفها واستراتيجيتها وأولوياتها.

واستمر الرئيس السوري في شرحه موضحاً أن الجيش اضطر إلى إعطاء الأولوية “للمناطق الحيوية التي يجب المحافظة عليها لمنع مناطق أخرى من السقوط”، ملمحاً أن هذا يمكن أن يشمل الأماكن ذات الأهمية العسكرية والاستراتيجية، المدن ذات الرمزية السياسية، والمناطق صاحبة البنية التحتية السكنية والمؤسساتية والتي تقدم خدمات أساسية”.

ووفقاً لمصدر ذي صلة عالية بالحكومة السورية، فإن هذا الخطاب الذي جرى في 26 يوليو -تموز- قد تم التحضير له من مدة بعيدة، وهو يمثل تراجعاً عن الخطاب الماضي الذي تحدث فيه عن الدفاع عن كامل الأراضي السورية، وذلك بعدما بزغ فجر الحقائق الجديدة حتى على أكثر القادة تشدداً داخل النظام، وأوضح المصدر “كان هناك رأيان بعد سقوط إدلب، أحدهما أراد استعادتها والآخر رفض ذلك، ثم جاءت خسارة جسر الشغور والتي كانت بمثابة الضربة الحقيقية، فعندما كانوا على وشك مهاجمة جسر الشغور لاستعادتها سقطت تدمر، وعندها أصبح كل شيء واضحاً بالكامل”.

تعبئة المجتمع لحرب شاملة

خلافاً لخطبه السابقة خلال فترة الصراع، لم يسعَ الأسد لإثبات رأيه أو لإدانة المعارضة، بل بدا كأنه يحاول أن يشرح القضية، متراوحاً بين النقاش الحذر وبين العمل على إقناع مؤيديه، ولكن بماذا؟ و يبدو أن جوهر الخطاب يتلخص بهذه الرسالة القاتمة: إن الخسائر الإقليمية سوف تستمر بالحدوث وإن القيادة العسكرية ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة، لذلك يجب على المواطنين أن يكثفوا من دعمهم للجيش.

و للمرة الأولى يعترف الأسد بمشكلة قلة التعداد التي يواجهها جيشه، رغم ادعائه أن هناك مبالغة في الدعاية المؤيدة للمعارضة (وهذا صحيح بالتأكيد)، فحاول إقناع شعبه بالنهوض والمشاركة في المعركة وذلك لأن “قدرات الجيش تعتمد على الطاقة البشرية، فإذا أردنا من الجيش أن يعطينا أفضل ما عنده يجب علينا أن نعطيه أفضل ما عندنا”، وبعد توقيع مرسوم العفو عن الفارين والمتهربين على أمل استعادة “بضعة آلاف منهم”، صرح الأسد: “عندما تتغير الحال  في الحرب إلى حال أخرى يجب أن يتزايد العدد وذلك من خلال الدعوة للتطوع إضافةً للمجندين والاحتياط”.

وفي وقت سابق من هذا العام، انتشرت شائعة تقول إن الأسد سوف يعلن عن التعبئة العامة وسيدفع بجميع الجنود الاحتياط وعدد من المواطنين العاديين للمشاركة في الحرب، وقد نفيت هذه الشائعة في ذاك الوقت، كما حدث من قبل، ومع ذلك، فإن الأسد يشير الآن وبصراحة إلى قانون التعبئة، هذا القانون الذي ينظم عملية التعبئة وحشد القواعد، والذي أعلن عنه في بداية 2011،  وأوضح قائلاً “إن الوضع قد يتطلب أن توضع الموارد المدنية كالسيارات والآليات والمرافق تحت تصرف القوات المسلحة، بعد أن شنت الحرب على كامل سورية وعلى المجتمع كله”.

حرب الوجود

إن المرسوم الذي صدر عام 2011، والذي ينص على التعبئة العامة، أعطى الأسد الأدوات القانونية ليضع المجتمع على استعداد كامل للحرب، مع أن حكومته قد قطعت بالفعل أشواطاً في هذا الطريق، وهناك شك فيما إذا كان الأسد قد حشد حقاً عدداً لا بأس به من الجنود الإضافيين من دون الحاجة إلى اللجوء للإكراه والعنف ضد قاعدته الشعبية.

ولكن مما لا شك فيه هو قرار الأسد نفسه بمواصلة القتال، حيث أنه بالكاد ذكر فكرة الانتصار النهائي على خصومه، غير أنه تحدث مراراً وتكراراً عن الصمود، المصطلح العربي للمثابرة والكفاح رغم كل الصعاب، وكأن هذا ليس تعهدا عظيماً منه فقط، بل أيضاً أقصى ما يمكن أن يطمح إليه مواطنوه، فقد ادعى الأسد أن المؤيدين السوريين قد أعادوا تحقيق انتصاراتهم مما أحبط أعداءهم، وبذلك حافظوا على أنفسهم وعلى وطنهم، وأكمل قائلاً “إن الثمن مرتفع لأن المخطط هائل، الحرب هي حرب وجود، أن تكون أولا تكون”.

لو كان بإمكاننا أن نعتمد على الأشخاص ذوي الصلة المباشرة مع من يعملون مع الأسد، لكنا قلنا إن هذه هي الفكرة المعتمدة داخل النظام، على الأسد أن يقبل أخيراً بالتخلي عن أجزاء من الأراضي السورية، وأن يتراجع إلى ما قبل الحدود الذي يعتقد بأنه يسيطر عليها، ولكنه لن يستسلم.

مركز كارنيغي للشرق الأوسط

ترجمة: رينوفا مول-السوري الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى