ما بين السياسة والثقافة في زمن الثورات برزخ التسطيح والضحالة
عبدالله أمين الحلاق
تكاد السياسة والميدان المشتعل في مواجهة الانظمة العربية في هذه الحقبة التاريخية البالغة الاهمية من حياتنا العربية، أن تبتلعا كل ما هو على علاقة بالمناخات الثقافية، وإن لامست الثقافة وجع الناس وقاربت ثوراتهم وانخرطت فيها. وكأن بعض المثقفين العرب الذين انخرطوا في ثورات بلادهم ضد طغاتها لم يهمَّشوا هم فقط، بل صارت الثقافة العربية في زمن التحولات العربي لزوم ما لا يلزم من وجهة نظر من كانوا مثقفين يوماً ما، وصاروا سياسيين أقحاحاً دخلوا ألاعيب السياسة البحتة وطوّحوا بتاريخهم وبالاستحقاق النقدي الذي يقع على كاهلهم كــ “مثقفين”، ليمسوا على غير علاقة بفكر نقدي ومعارك ثقافية يفترض ان تقارب السياسة الملغومة في زمن الربيع العربي من زاوية مغايرة للبراغماتية وتحالفاتها، وتحديداً في العلاقة مع التيار الإسلامي الصاعد والرافع الرايات السود في سماء هذا المشرق العربي.
أتابِع بقوة هذه الأيام، الجو الإسلامي التكفيري المتنامي في سوريا الثائرة ضد الأسد، وفي مصر الإخوان وتونس النهضة، وموقف بعض المثقفين العلمانيين المستهتر والمبرر لذلك الصعود بدواعي أولوية المعركة مع النظام. هي أولوية حقيقية بالطبع، ولا مساومة على ضرورة رحيل الاستبداد الى غير رجعة، إلا أن الحسابات السياسية تمنع بعض كبار المثقفين من نقد المآلات المحتملة لما بعد ذلك السقوط، او القول والكتابة بما هو مغاير للواقع خوفاً من التخوين والاتهام بـــ “معاداة اهداف الثورة” في ظل قوانين الطوارئ الثورية المتشكلة في أروقة المعارضة السورية وبعض قواها على الأرض.
لذا، وفي العلاقة مع الإسلاميين الصاعدين والمبشرين إيانا بالجنّة والحور العين والدولة المدنية وفق “فهمهم” للدولة المدنية، والابتسامات الساذجة والتصفيق لهم من قبل مثقفين سوريين باتوا ملحقين بالمجلس الوطني او الائتلاف وغيرها من تشكيلات لا ينقصها اللعب بالالفاظ والكلمات وأفكار الآخرين وتضحيات الشعب السوري، تذكرتُ جدلاً حدث في عام 1944 على صفحات مجلة “الرسالة” المصرية، بخصوص الروائي الكبير نجيب محفوظ، وكان المجادل فيها أحد أهم منظري التيار التكفيري في الإسلام السياسي لاحقاً وهو سيد قطب.
تلك الفترة شهدت صعود نجم نجيب محفوظ وأدبه الواقعي في مواجهة من توقفت الواقعية المصرية عنده وصارت مدرسة تنسب اليه وهو محمود تيمور ومدرسته “التيمورية”.
كان محمود تيمور مهيمناً على كل ما هو على علاقة بكتابة القصة في ذلك الوقت، ولما سطع نجم نجيب محفوظ في مصر وتحديداً مع عمله الأول “كفاح طيبة”، فإن قلة هم من التفتوا إليه وأعطوه حقه وما يستأهله من اهتمام، ومن بين هؤلاء، وللمفارقة، سيد قطب، الذي كان ناقداً ادبياً في تلك الفترة، وكتب على صفحات ” الرسالة ” بتاريخ 18 أيلول 1944 – العدد 585 – مقالاً هجومياً على محمود تيمور واعتبر أن نجيب محفوظ يفتتح أسلوباً ونمطاً جديداً في الكتابة الأدبية، قائلاً في مقالته حرفياً:
“لو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه قصة كفاح طيبة في يد كل فتى وفتاة، ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان، ولأقمت لصاحبها الذي لا أعرفه حفلة من حفلات التكريم التي لا عداد في مصر للمستحقين وغير المستحقين”.
طبعاً، وقبل محاولة اغتيال نجيب محفوظ في تسعينات القرن الماضي بسنوات عبر طعنه بخنجر من قبل أحد المتطرفين، انقلب سيد قطب على نفسه وكتاباته النقدية في الأدب وصار أحد أكبر الآباء الروحيين للخط الظلامي الجهادي السلفي في عالمنا العربي، ويستمر كتابه “معالم على الطريق” في تضييق كوة الضوء التي قد ينفذ منها أي فكر تنويري إصلاحي في ديار الإسلام. وقبله، كان محمد رشيد رضا قد انقلب على الفكر الإصلاحي لأستاذه الأزهري محمد عبده، وأخذ اتجاهاً منغلقاً لاهوتياً على ذاته.
الانقلاب لدى هؤلاء هو التراجع القهقرى إلى حظيرة الإسلام السياسي المتحجر، ويفترض ان يقابله ويكون على الضد منه اليوم حالات انفتاح للإسلاميين على مفاهيم ذات علاقة بالربيع العربي ودولة المواطَنة والمساواة المنشودة والديمقراطية والحريات العامة والخاصة. وهذا ما نسمعه كل يوم على محطات الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي من التزام للإخوان المسلمين السوريين بالدولة المدنية والديمقراطية، وهو ما كان لسان حالهم في مصر قبل وثوبهم إلى السلطة، وهو تغيّر يُفترض ان يكون مدعاة ترحيب من الكثيرين ومنهم كاتب هذه السطور.. إلا ان كاتب هذه السطور وكثيرين غيره هم من المتشككين بالخطاب الإسلامي الإخواني وغير الإخواني طالما أن ثوابت فكرية كبرى لم يتم التطرق إليها سوى ذكرهم تفاصيل ديمقراطية تبقى إجرائية ومختزلة في صندوق الاقتراع، جاهزة للتهافت عند أول آية قرآنية وحديث نبوي يدعو إلى تطبيق شرع الله في البلاد والعباد.
أما على الجبهة التي لا تؤمن حتى بصندوق الاقتراع، ونعني “جبهة النصرة لأهل الشام”، فالأمر مدعاة توثب واستنفار شديدين، بسبب التوسع الجغرافي لأماكن تواجد هذه الجبهة على الأراضي السورية وبسبب حجم التغاضي الهائل عن فكرها وعقيدتها ومن قبل مثقفين ديمقراطيين علمانيين يشهرون أقلامهم في مواجهة كل قلم نقدي ينتقد ويحاجج ويرفض كل ممارسات تكفيرية وإلغائية في الثورة باسم هذه الثورة.
هؤلاء المثقفون صاروا ساسة أكثر من كونهم مثقفين، وخلقوا محاكم تفتيش ثقافية سبقت محاكم التفتيش الإسلامية التي ينكرون احتمالاتها مستقبلاً فيما ترفع تلك المحاكم راياتها منذ اليوم. وهؤلاء الديمقراطيون العلمانيون، بمواقفهم هذه، إنما يبدون الأقرب إلى كتاب “معالم في الطريق” لسيد قطب أكثر من مقالته في مجلة “الرسالة”، ويعيدون اغتيال فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ مجدداً قبل أن يعود احفاد القَتَلَة إلى الساحة الخالية إلا من الفراغ، وهو ما سيكون فاتحة زمن موت وتصفيات ومحاكمات سيكون للأقلام الحرة نصيب منها، كما نعتقد وكما لا نأمل بالطبع.