ما تفعله الصحافة الثقافية/ أمير تاج السر
منذ سنوات طويلة وأنا أنتبه إلى ما تقدمه الصحافة الثقافية، سواء في ما تنقله من أخبار عن الأدب والفكر والفنون هنا وهناك، أو ما تجريه من حوارات وتحقيقات مع أدباء لا يهم إن كانوا مؤثرين في المشهد الثقافي أم لا، وفقط قد يثرون تلك الصفحات بما يقدمونه من آراء وملاحظات. ولا شك أن الملاحق الثقافية، بما تنشره من تلك المواد التي ذكرتها، وتزيد عليها نصوصا إبداعية، من شعر وقصة وفصول روائية، تبدو وجبات دسمة لعشاق الثقافة، تتيح لهم أن يتذوقوها بلا عناء كبير.
بالطبع يوجد صحافيون متخصصون في الثقافة، بمعنى أنهم تدربوا على نقل الخبر الثقافي، وتغطية الحدث الثقافي مهما كانت صعوبة تغطيته، وصياغة الحوار الصحافي بحيث يبدو جديدا ومتوهجا ومغريا بالإجابة عليه من قبل الطرف الذي تتم محاورته. وأيضا تعجبني تقارير وقراءات لعناوين أدبية من قبل صحافيين يبدون للكاتب عارفين بدقائق كتابته، ويسعده كثيرا أن يتولوا العناية بها حتى لو كانت آراءهم ليست إيجابية تماما. وهؤلاء بقليل من الاعتراف بفضلهم، يمكن اعتمادهم مراجعين للإصدارات الجديدة، التي يمكن أن تزودهم بها دور النشر باستمرار، وتجعلهم يكتبون عنها قبل أن تطرح في الأسواق. وهذا نشاط مشروع موجود في أوروبا، حيث يوجد لكل كتاب يصدره كاتب مهم، أو كاتب في سبيله ليصبح مهما، ناشر آخر يتولى الدعاية للكتاب قبل طرحه، ويوزعه للذين سيقرأون ويكتبون، هكذا، وحدث معي ذلك في كتب ترجمت لي حيث كنت أتلقى رسائل من أشخاص يقولون أنهم عينوا ليعتنوا بكتابي، وتكثيف الحوارات والمراجعات حوله.
إذن لا مشكلة مع الصحافة الثقافية، إن كانت قوية وذات أثر إيجابي، وتعتني بالثقافة حقيقة بواسطة صحافيين مدربين، لا مانع من حوار يدور حول تجربة الكاتب عامة، مع تسليط الضوء على كتب معينة ذات أهمية خاصة، داخل تجربته، إن كان من أصحاب التجارب العامرة. لا مانع من تبني وجهات نظر الشخصيات داخل النصوص والأسئلة بلسانها أو رفض آرائها تماما، وسؤال الكاتب عن المغزى من كتابة أشياء قد لا تستوعب بسهولة. ويحتاج القارئ إلى تفسير حولها، مثل أن يكتب أحدهم نصا عن قبائل بدائية في أحراش بعيدة، ولا يكون ثمة ضرورة لكتابة هذا النص في وجود قضايا أخرى كبرى ومصائر ضائعة، وهفوات ربما أشد فتكا من نص متخيل. هنا سنسأل الكاتب عن فكرته وسنحصل على إجابة مقنعة أو غير مقنعة، هذا غير مهم، وهناك من يردد دائما أنه يكتب فنا لا حاجة به لأن يلامس قضايا الساعة التي ستلامسها نصوص كثيرة، معظمها نصوص إنشائية بلا فن.
المشكلة تبدأ حين نلاحظ سلبيات كثيرة على تلك الصحافة الثقافية، حين تبدو مساحات معتمة لكثير من الكتابات لا إضاءات لها، وأظنني نوهت مرة إلى ضرورة إلغاء بعض الأسئلة من الحوارات التي ترسل للمبدع، لأنها أولا لم تعد جديدة ولا مهمة، وثانيا لأنها من تلك الزيادات التي يضيع معها وقت المبدع، ولا يقدم خلالها أي معنى مجيد، أو يضيء بها سطرا من عوالمه.
لقد تحدثت عن مهنة الكاتب مثلا، وأزيد إنها مجرد مهنة ليست ذات دلالة إيجابية في كثير من الأحيان. قد تكون هناك مثلا محطات كثيرة تتوقف فيها الحافلة لالتقاط شخصيات وإنزال شخصيات في نص لكاتب يعمل سائق حافلة. قد تكون ثمة مشارط تجرح الجسد، وأمراض مزمنة وحادة، في نصوص الكاتب الطبيب وقد تجد ماكينات، وقضايا ومجرمين، وطعاما يقدم عند كتاب أصحاب مهن لصيقة بتلك المعطيات لكن النصوص في أي موضوع، يمكن أن تكتب بقليل من الثقافة، ولا تحتاج لخبرات مهنية من أجل أن يكتب أي كاتب عن الجريمة أو الأمراض أو أي شيء يود الكتابة عنه. سؤال التأثير والتأثر، هو سؤال ملغى أيضا من الحوارات، أنا ألغيه حين أجده في حوار يصلني، لأنني لن أظل أردد في كل مرة بأنني تأثرت بأدب أمريكا اللاتينية حتى أموت، ولن أقول بأنني أثرت في أحد لأنني لا أعرف إن كانت تجاربي المتواضعة البسيطة قد أثرت في أحد أم لا؟
سؤال الغربة الذي يلازم كتابا ارتحلوا عن أوطانهم لأي سبب من الأسباب بما فيها عنت السلطات في تلك البلاد وعدم تذوقها للأدب في شتى صوره، وبالطبع منظومة شظف العيش أكثر المنظومات دفعا للناس نحو الرحيل. سؤال الغربة دائما جامد ودائما هو السؤال نفسه والإجابة نفسها التي لن تتغير، وحتى لو عاد الكاتب إلى وطنه، وحتى لو مات، هناك من سيشير بأنه كان مغتربا عن وطنه وكتب أدبا له علاقة بالاغتراب. وفي الواقع توجد منظومة أخرى تعادل تلك القيمة المتداولة، وهي منظومة الحنين التي تجعل الأدب المغترب يتعلق بأهداب الأوطان جيدا، ويخرج بلا أي رائحة أخرى غير رائحة تلك الأوطان. سنصدق أن هناك من رمى الوطن خلف تفكيره وأبدع أدبا بعيدا تماما عنه لكن حين نقرأ آدابا يفترض أن تكون مثلا لذلك، لن نعثر على شيء يؤيد تلك الفرضية، وعندنا كتاب سودانيون مثلا، ترعرعوا خارج البلاد وربما ولدوا خارجا أصلا، ونجدهم يستلهمون كتاباتهم من جو البلاد لا غير.
شيء مهم وصاعق يجعل من تعرضي للصحافة الثقافية في محله، وهو أنني التقيت بصحافيين ثقافيين، وراسلني أيضا صحافيون في الصفحات الثقافية لا يعرفون شيئا عن الأحداث الثقافية الكبرى في الوطن العربي، وغير ملمين بأشياء حتى الناس العاديون يلمون بها تفصيلا. مثلا التقيت بصحافي جاء يغطي مؤتمرا صحفيا خاصا بورشة أقامتها جائزة البوكر وكنت مشرفا عليها، وقبل أن يسألني عن أهمية الورشة، وما أنجزناه خلالها، مال علي، وسألني هامسا: أخي، ما معنى جائزة البوكر؟
وراسلني أحدهم مرة من أجل إجراء حوار معي وكان أن خاطبني بالسيدة الفاضلة، وطرح لتلك السيدة الفاضلة أسئلة مكررة، ولا علاقة لها بأي شيء، أسئلة عن أدب المرأة، وما يميز أدب المرأة، وإن كان ثمة نقص تحس به المرأة وهي تكتب، وكان أن دهشت ولم أرد حتى على رسالته.
كاتب سوداني
القدس العربي