صفحات العالم

مقالات تناولت قضية باسم يوسف

باسم يوسف و… “الليبرالية”/ حازم صاغية

بشيء من السخاء والمبالغة أطلق المؤرخ ألبرت حوراني تعبير «الحقبة الليبرالية» على تلك الفترة الممتدة من الاحتلال الإنكليزي لمصر في 1882 حتى أواخر الثلاثينات من القرن الماضي.

والأسباب التي حملت وتحمل على اتهام حوراني بالسخاء والمبالغة كثيرة، فهناك من نعى افتقار هؤلاء «الليبراليين» إلى قوة اجتماعية وسطى يصدرون عنها ويمثلونها ويستظلون بها. وهناك من ركز على افتقار تجربتنا التاريخية إلى تراكم من التقاليد والأفكار السياسية التي لا تنهض الليبرالية إلا على تراكمها بين أيدينا. ولم تكن قليلةً تلك الأصوات التي شددت على صعوبات الليبرالية، إن لم يكن على استحالتها، في ظل الاستنكاف عن إصلاح ديني يتعدى كثيراً تواضع المحاولة التي حاولها الشيخان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. ويمكن القول، أقله في البلدان ذات النسيج الوطني الأضعف، أن النزعات الإيديولوجية الحديثة، وفي عدادها الليبرالية والاشتراكية وسواهما، لا تُقلع قبل بت مسألة الدولة – الأمة والإجماع حول هوية وطنية، فهي في هذه الحال، تكاد أن تقتصر على صياغة لحساسيات أقلية تصطبغ أحياناً بأمزجة فردية.

كائناً ما كان أمر الحجج والتأويلات الكثيرة، فقد سبق للبنانيين أن سموا السياسي الراحل ريمون إده «ليبرالياً». لكن الدعوتين اللتين اشتُهر بهما إده كانتا الإلحاح في تنفيذ أحكام الإعدام والحفاظ على السرية المصرفية! وفي العراق حاول السياسيان الراحلان كامل الجادرجي ومحمد حديد دمج تقاليد الاشتراكية الديموقراطية بالتقليد الليبرالي، إلا أن الاثنين شغلا المناصب الوزارية في العهدين العسكريين لبكر صدقي، في الثلاثينات، وعبد الكريم قاسم، في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات. وفي سورية، في 1958، وجدت نفسَها البيئة التجارية المدينية، الحاضنة الافتراضية لوعي ليبرالي، توقع على صك موتها، وموت بلدها، بإذعانها للوحدة مع مصر في ظل الحكم العسكري لجمال عبد الناصر.

ومن دون الاستفاضة في تعداد تجارب وأنصاف تجارب تشي كلها بهزال «الليبرالية العربية»، بل تشي بضعف الحساسية الديموقراطية أصلاً، جاء الموقف «الليبرالي» من الانقلاب العسكري الأخير في مصر يقطع في أمر ذينك الهزال والضعف.

ومع كل يوم يمر، وترتفع فيه الأصوات التي تمجد الفريق عبد الفتاح السيسي كما تطالبه بـ «إكمال جميلك»، يتبدى أكثر فأكثر مدى الاشتراك في الذهنية الإقصائية، المناهضة تعريفاً لليبرالية، بين «الإخوان المسلمين» وخصومهم «الليبراليين». فالمطلوب، في الحالتين، هو «الخلاص» الذي يأتي به قائد قوي وملهم، قد يكون شيخاً موصولاً بالغيب، وقد يكون عسكرياً ترصع النجوم كتفيه.

أمام هذه اللوحة الرديئة تبدو حالة باسم يوسف لافتة للنظر. فبعد توجيه الناقد الساخر أطناناً من الانتقادات لمحمد مرسي، جاءت انتقاداته الأقل عدداً ونوعاً للسيسي (واستطراداً للرئيس الانتقالي عدلي منصور). هكذا صان يوسف، ولو في حد أدنى، ما يُفترض بموقف ليبرالي أن يكونه. لكن النائب العام المصري أمر بالتحقيق في بلاغ مقدم بحقه، وأهم من ذلك أن «الجماهير» و «الأهل» عبروا عن استنكارهم لانتقاد السيسي وغضبهم منه.

فهل من المبالغة أن يقال إن حصة الليبرالية عند العرب لا تتعدى كثيراً باسم يوسف، وإن شكلها الغالب لا يزال حتى اليوم برنامجاً ساخراً؟

خلاصة كهذه تتيح لصاحب «البرنامج» أن يفخر، بقدر ما تحمل «الليبرالية» على أن تخجل

الحياة

السخرية، بين «فاشية الإخوان» و«فاشية الأمن القومي/ سامر فرنجيّة

اختتم باسم يوسف حلقة «البرنامج» الأخيرة، وهي الأولى بعد الثورة-الانقلاب في ٣٠ حزيران (يونيو)، بفقرة «جدّية»، حدّد فيها موقفه والأخطار التي تحدق ببرنامجه. وبدقّة جرّاح، رسم يوسف ملامح موقفه الرافض لـ «الإخوان» من جهة ولموجة «النفاق والتأليه والفرعنة» من جهة أخرى، معارضاً استبدال «فاشية دينية» بـ«فاشية الوطن والأمن القومي». أمّا الخطر الذي يواجه موقفاً كهذا، فلم يره مقدّم «البرنامج» في ضغوط السلطة، بل في الانقسام الأهلي الحاد و«المزاج العام» اللذين لا يتقبّلان رأياً آخر أو حتى السخرية من الواقع.

تحققت مخاوف يوسف بسرعة ربما لم يتوقعها مقدّم «البرنامج» عندما أدلى بموقفه. فبعد أقلّ من ٢٤ ساعة، وبالإضافة إلى عدد من البلاغات التي قُدِّمت للنائب العام تتّهمه بالإساءة إلى الفريق السيسي والجيش المصري، اضطرّت قناة «سي بي سي» إلى إصدار بيان توضح فيه موقفها من «البرنامج». هكذا وبعد متابعة «ردود الفعل الشعبية» والتي كانت، وفق بيان المحطة، رافضة لبعض ما جاء في الحلقة، اضطر مجلس إدارة «سي بي سي» إلى تأكيد دعمه «ثوابت الشعور الوطني العام، وإرادة الشعب المصري» و«ثورتي الشعب المصري 25 يناير و30 يونيو».

يطرح هذا البيان ومعه بعض ردود الفعل على سخرية يوسف، وهي السخرية ذاتها التي ساهمت في إسقاط حكم «الإخوان»، أسئلة عن مستقبل مصر السياسي في ظل «حب» الجماهير لوزير دفاعها. وكان يوسف كسب رهانه بأن يعود في ظل مناخ سياسي تغير، وأن يحافظ على مساحة لنقده الساخر الذي طاول «الإخوان» وموجة الحب التي حوّلت ضابطاً في الجيش إلى أيقونة تزيِّن حبات الشوكولا. وعلى رغم أنّ نقد يوسف أتى من داخل «ثورة ٣٠ يونيو»، فهذا لم يعفِه من هجوم بعض المهلّلين للزعيم الجديد.

قد يكون هذا الهجــوم على «البرنامـــج» مجرّد حادثة لن تؤثر في اســتمراريته أو طبيعة نقده. غير أنّه إشارة إلى تحوّل في نمط الحكم، بالتالي في مساحة المسموح به في مصر اليوم. فأســــلوب يوسف الساخر لم يكن ممكناً في نظام تســـلّطي، حيث يـــستـــحيل تناول النظام ورموزه علـــناً. وإلى هذا الحــد أو ذاك، فتحت الثورات العربية المجال لأساليب جديدة من السخرية السياسية، كانت مستحيلة قبلها، وهذا من خلال توسيع مساحة الحريات الإعلامية وإعادة الاعتبار إلى الخطاب السياسي الذي بات قابلاً للمحاســـبة وفق معايير التماسك أو العلاقة مع الواقع. في ظروف كهذه، برع «البرنامج» في تسييس السخرية، بخاصة بعدما تبرّع «الإخوان المسلمون» باحتلال مكان مبارك بوصفه الموحِّد للهواجس السياسية.

يبدو كأنّ هذا المرحلة انتهت، وإنّ لم تتضح بعد ملامح المرحلة الجديدة. فالحاجز الأساسي في وجه أسلوب السخرية، كما حدّده يوسف، قد لا يكون قمع النظام الجديد، بل عدم تقبّل الجمهور لسخرية كهذه في ظل احتدام الصراع السياسي والأمني. وعاد يوسف وحدّد موقفه في مقالة له في صحيفة «الشروق»، حيث حذر من انعطافة مصر إلى «اليمين»، مهاجماً ما يسمى التيار الليبرالي أو العلماني، لكونه لا يقل تطرفاً ورأسماليةً وقمعاً ونفاقاً عن خصمه اليميني، أي «الإخوان»، خاتماً المقالة بقوله «التطرف واحد واليمين واحد» (٢٩-١٠-٢٠١٣). وهذا الاستنتاج، أي مساواة الطرفين، هو ما لخّصه الناشط السياسي علاء عبد الفتاح عندما صرّح بأنّ لا فارق بين «مبارك وطنطاوي ومرسي والسيسي» لكونهم جميعاً أوجهاً متعددة لنظام واحد (الشروق، ٢٨-١٠-٢٠١٣). بعد ثلاث سنوات، يبدو أن الوضع عاد إلى ما كان عليه، هذا إذا كان قد تغيّر أصلاً.

على رغم الصوابية السياسية لهذه المعاينة للواقع، قد يكون هناك أكثر من عودة إلى نظام سابق أو استمرارية في النهج ذاته مع تغيّر بسيط في أوجه النظام. أشكال القمع باتت تتغير وتمّ تحديث بعض جوانب النظام القديم أو ابتكار طرق جديدة للقمع، ما يتطلب تغييراً في أسلوب محاربته. وبين هذه التحولات، أن السيسي، وإن كان ورث منظومة مبارك الأمنية والإعلامية والاقتصادية، مختلف عنه أيديولوجياً. خطابه هو خطاب الثورة، وإغراؤه بات يطاول جمهورها.

بهذا المعنى، المفارقة هي أنّ الثورة انتصرت كون جميع اللاعبين، «الإخوان» أو العسكر أو معارضي الطرفين، باتوا يرجعون إلى المنبع ذاته، أي الثورة المصرية في أحد فرعيها، ٢٥ يناير أو ٣٠ يونيو. لم يعد هناك آخر للثورة، يمكن أن يعرّفها ويحدّد لها أعداءها.

قد لا يكون الوضع تغيّر كفاية، وفق طموح بعضهم، لكنّه تغيّر واستطاع أن يروّض الثورة لتصبح المنطلق لكل المشاريع السياسية، المتناقضة والمتواجهة. فثنائية القمع أو الحرب الأهلية، التي تقدَّم كأفق للسياسة في مصر، ليست دخيلة على مفهوم الثورة. ذاك أنّ تلك المفاهيم، أي الثورة والقمع والحرب الأهلية، تتقاطع وتتجاور، أكان في الخطابات عن الثورة، أو حتى في بعض التجارب التاريخية. والتمسّك بالثورة فقط لمحاربة هذين الخيارين بات مستحيلاً، ما أجبر يوسف على إعادة اكتشاف الاصطفافات الأيديولوجية، ومن خلالها ممارسته عزلته في يساريته.

إذا شكّل العنف مدخلاً لقتل الثورة السورية، فقد يكون الترويض مخرج بعضهم للقضاء على الثورة المصرية. ومن الصعب هنا، تحديد هل الاستمرار في الثورة والبحث عن تاريخ ثالث لها، بعد ٢٥ يناير و٣٠ يونيو، هو الطريق الأفضل، أو البحث عن آخر للثورة، بخاصة بعدما قُسِّم إرثها ووزِّع وبُدّد.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى