ما عدا الفجر/ خوليو كورتاثر
ريح الجنوب
يستبيح الصقيع الساحة مع أسراب الطيور والنمل
ينقضّ الإعصار بأسنانه على السهول،
هناك حيث يطأطئ الناس رؤوسهم وهم يرون الموت يعبُر بينهم.
أيتها الآلة العابرة في البراري
كيف تفلح أشواكك في تبديل السرعة فوق الجفون، تباً يا خطاطيف الثوم السكران،
يا الهندباء المسحوقة ذات المذاق المر.
القطيع الحذر يسد درب الريح.
والمطحنة تحشر صورتها بين أفقين غافلين، وتضحك مثل رجل مشنوق.
وأشجار الحور تتسلق العواميد الذهبية، ولكن الصفصاف يعرف البلد أكثر
تتراجع أغصانه الخضر بصمت كي تعانق ظل الأطراف.
هاهنا تمدد الرجل على فراغ الأيام
وأخذ يرتشف المته من أعماق الثعابين وهو ينسب بشائر النهار إلى حظ خفي.
بيته البني الداكن ينهض على السوط الذي يزرع الرغوة على فم المهر.
يتحدى الإشارات بطعنة طويلة سريعة
ويتعرف إلى النجوم بالضوء الراقد في البئر.
الولد الطيب
لن أتعلم أن أخلع حذائي وأترك المدينة تعض قدميّ.
لن أسكر تحت الجسور، لن أرتكب أخطاء في الأسلوب.
أرضى بهذا المصير اللائق بالقمصان المكوية
أذهب إلى السينما في الوقت المحدد، أتخلى عن مقعدي للسيدات.
العطل الكبير في الحواس يقلقني،
أفضّل معجون الأسنان والمناشف. آخذ اللقاحات.
أنظر إلى هذا العاشق البائس،
العاجز عن القفز إلى نافورة،
كي يجلب لك سمكة صغيرة حمراء،
تحت الأنظار الساخطة للبوليس والمربيات.
رسالة غرام
ما أطلبه منك
شيء قليل في العمق.
ففي العمق كل شيء.
ككلب عابر،
هذه الأشياء التافهة، اليومية
سنبلة وشعرة وقصبتان
رائحة جسدك
ما تقوله بشأن أي شيء
سواء اتفقت معي أم لا
كل هذا الذي هو قليل للغاية
أريده لأنني أحبك
لو تجاوزتينني بنظرك
لو عشقتنني باستعلاء عنيف
للمستقبل، لو أن صرخة نشوتك الجنسية تنفجر
في وجه أحد مدراء المكاتب.
ولو أن الفرح الذي نصنعه معاً
يكون علامةً أخرى للحرية.
بعد الأفراح
وحين انصرف الناس جميعاً
وبقينا وحدنا
بين الأقداح الفارغة والصحون المتسخة
كم كان جميلاً أن أعرف أنك
باقية مثل مأوى
وحيدة معي عند حافة الليل
وكنت تواظبين، كنت أكثر من الزمن.
كنتِ التي لن تذهب
لأن المخدة ذاتها
والدفء ذاته
سينادياننا مرة أخرى
لأن نسهر حتى الفجر الجديد،
نضحك، معاً، وهيئتنا غير مرتبة.
المستقبل
وأعرف جيداً أنك لن تكوني هناك
لن تكوني في الشارع، في الطنين الذي يخرج ليلاً
من أعمدة الضوء، ولا في حركة
اختيار قائمة الطعام، ولا في الإبتسامة
التي تنير الناس المكوّمين في الممرات،
ولا في الكتب المستعارة ولا في إلى اللقاء.
لن تكوني في أحلامي
في الوجهة الأصلية لكلماتي
ولن تكوني في رقم تلفون ما
أو في لون زوج من القفازات أو سترة.
سينتابني الغضب، يا حبيبتي، دون أن يكون ذلك بسببكِ.
وسأشتري حلوى ولكن ليس لكِ.
سأقف في الزاوية التي لن تأتي إليها
سأقول الكلمات التي تقال
وسآكل الأشياء التي تؤكل
وسأحلم الأحلام التي تحلم
وأعرف جيداً أنك لن تكوني.
لا هنا في الداخل، في الزنزانة التي ما زلت أحتفظ بك فيها
ولا هناك في الخارج، في نهر الشوارع والجسور.
لن تكوني هناك أبداً. لن تكوني حتى مجرد ذكرى،
وحين أفكر بك ستخطر لي فكرة
تسعى بشكل غامض أن تتذكركِ.
تقرأ على شكل تحقيق
هل رأيت
هل رأيت حقاً
الثلج النجوم الخطوات المدركة النسيم
هل لمست
أحقاً لمست
الصحن الخبز وجه هذه المرأة التي تحبها
كثيراً
هل عشت
مثل خبطة على الجبهة
اللحظة الشهقة السقوط الطيران
هل عرفت
بكل خلية في جلدك عرفت
بأن عينيك يديك عضوك قلبك الرقيق
يجب أن تُرمى
يجب أن تشطب
يجب أن تُصنع من جديد.
في الليل
يداي سوداوان في هذه الليلة وقلبي معرّق
كأني صارعت حتى النسيان مع حرايش الدخان
بقي كل شيء هناك، القناني والسفينة.
لا أعرف إن كانوا أحبوني قط أو رغبوا في رؤيتي.
في الصحيفة الملقاة على السرير أخبار اللقاءات
الدبلوماسية
نزيف منفجر استمر جذلاً في أربع جولات.
غابة عالية تحيط بهذا البيت في مركز
المدينة،
أعرف، أحس بأن رجلاً أعمى يحتضر في الجوار
زوجتي تصعد وتهبط سلّماً صغيراً
مثل قطبان بحري لا يثق بالنجوم
ثمة كوب حليب، أوراق، الحادية عشرة ليلاً.
في الخارج يبدو كما لو أن قطعاناً من الأحصنة تجتمع عند النافذة خلف ظهري.
مدوّنة للقيصر
وستشيد مدينة كبيرة
وجسور المدينة الكبيرة سوف تصل إلى مدن أخرى
مثلما يصيب طاعون الجرذان جرذاناً أخرى وناساً آخرين.
كل ما هو حيّ في مدينتك سوف يمجّد اسمك
وستلقى نفسك مشرفاً
ممدوحاً ومشرفاً
وستنطق اسمك بنفسك كما لو كنت تنظر في مرآة
لأنك لن تميّز بين العباد والمعبود
الأرجح ستكون سعيداً
كأي رجل مع امرأة كأي رجل مع مدينة
الأرجح ستكون وسيماً
كأي معبود يحمل حجراً كريماً في جبهته
كأي أسد يركض في الميدان مع طوق النار
وستبني قلعةً
وسترعى سيركاً
وستمنح اسمك للذرية السابعة من عائلات الشغيلة
لا يهمّ إن نمت فطور زهرية
في العتمة
إن سطّر دخان المعامل الأحرف الأولى من اسمك في الأعالي
دائرة الطباشير سوف تقفل
وفي الأخير سوف ترسم صور الحامي في كهوف الليل
من اليوم فصاعداً ستكون الكاهن الأعلى
ويوماً ستكون وزيراً لنفسك
وستشيد مدينة كبيرة
على نحو ما يرفع النمل النشيط تلالها الصغيرة
وستستورد الحبوب من رومانيا والورق من كندا
وستكون ثمة سعادة غامرة في العطلات الرسمية
وأثناء عودة الفرق الظافرة.
لا شيء من كل هذا سيتجاوز جدران غرفتك
ولكنك ستشيد مدينة كبيرة
من الظهيرة إلى منتصف الليل
مدينة قلب مدينة ذاكرة مدينة عار
مدينة الإنسان تنمو في إنسان المدينة
وسيحتمي الكلّ من الكل
الظلال من الظلال
الكلاب من الكلاب
الأطفال من الأطفال
الأرجح ستموت وأنت على قناعة
بأنك شيّدت مدينة
أعتقد أنك شيّدت مدينة
أؤمن بك
وبالمدينة
نعم إذن
الآن أؤمن
أعرف أنك شيّدت مدينة
عاش القيصر.
الآلهة
يمر الآلهة بين الأشياء المتساقطة، رافعين
طرف أثوابهم بقرف
يمرون بين القطط الننتنة، بين يرقات طازجة وأكورديونات
يشعرون في أسفل بغالهم برطوبة الحصائر
المعفنة
وقئ الزمن.
ما عادوا يقيمون في سمائهم العارية،
مكتومين حول بعضهم في ألم، في حلم مزعج،
يمشون وقد أثخنتهم الكوابيس والوحل
يقفون
ليحصوا أمواتهم، والغيوم مقلوبة رأساً على عقب،
الكلاب التي قطعت ألسنتها
ليحدقوا بحسرة في الهاوية
حيث تتناهش جرذان زاعقة وقد رفعت أطرافها
من أجل رايات منتوفة.
توزيع الزمن
يوماً بعد يوم يزداد عديدنا ويقل إيماننا
بأشياء كثيرة ملأت حياتنا
أرقاها، وما لا يمكن دحضها، القيم التي نادى بها أفلاطون وغوته
الكلمة وحمامتها التي ترفرف فوق سفينة التاريخ
الفعل والحسب والنسب.
ليس القصد أننا ننحني بحمية الأغرار
أمام هذا العلم الذي يرسل الصاروخ إلى القمر
الحقيقة، الحقيقة، أننا لا نكترث
ولو أفلح الدكتور برنارد في زرع قلب اصطناعي
فسوف نفضل ألف مرة
أن تظل سعادة كل امرئ كامنة في الوجه الدقيق، الضروري للحياة
إلى أن يقول القلب الذي لا يمكن تعويضه كفى
يوماً بعد يوم نزداد عدداً نحن الذين يقل إيماننا
بجدوى النزعة الإنسانية
للأباطرة ومدعي الذوق الفني
لبلوغ النيرفانا القصوى.
هذا لا يعني
أننا في ساعات الاستراحة
لن نقرأ في قراءة ريلكه وفيرلين وأفلاطون
أو نصغي للأصوات الشجية
أو نتفرج على الملائكة المرتعشين
في لوحات أنجيليكو.
أزمنة
أمر لا يصدق أنني منذ اثنتي عشرة سنة
بلغت الخمسين من عمري، لا أقل.
كيف كنت عجوزاً إلى هذا الحد
قبل اثنتي عشرة سنة؟
وقريباً ستمر ثلاث عشرة سنة
منذ بلغت الخمسين. أمر لا يصدق.
السماء زرقاء للغاية
وأنت بهية للغاية
ألا يدل هذا
على أن ثمة عطلا
في الساعات؟
يطيب للتبغ والويسكي
أن يكونا في غرفتي.
يحبان البقاء معي.
ومع هذا أكاد لا أصدق أنني
أكملت خمسا وعشرين سنة مرتين
منذ اثنتي عشرة سنة.
حين تتجول يدك على جلدي
أعرف أنها تبحث عن الشعيرات
التي غزاها البياض.
هناك عشرة أو اثنتا عشرة.
لك جائزة إن عثرت عليها.
سأشرع في قراءة الكتب الكلاسيكية
تلك التي سهوت عنها وأنا أمضي في العمر
ينبغي أن أستعجل
لن يهتم أحد بأن يعطيك أشياء كهذه
وقريباً ستمر ثلاث عشرة سنة
منذ بلغت الخمسين.
في الرابعة عشرة
أظن أن الفزع سينتابني
فأنا، وكي أكون صادقاً معك،
لا أحب عدد الرابعة عشر.
(نيروبي، 1976).
* من المجموعة الشعرية التي صدرت عام 1984 في مكسيكو سيتي بعنوان: “ما عدا الفجر”
(salvo él crepúsculo)
الترجمة من الإسبانية
المترجم: نزار آغري
ضفة ثالثة