ما معنى اليسار بدون حرية؟
رسالة مفتوحة إلى صديقي النائب محمد بركة:
رائف زريق
لولا الثقة الكبيرة بك، وإيماني بحسن النوايا، لما كنت اكتب إليك. لكن بحجم الثقة الكبيرة جاءت تصريحاتك للتلفزيون السوري مخيبة للآمال في أحسن الأحوال، بائسة فكرياً وسياسياً في أسوأها.
احتار، كيف يجد نفسه من يناضل من أجل الحرية والاستقلال والمساواة والكرامة، منذ 3 عقود – يدافع عن طاغية مستبد يغتال الأطفال في وضح النهار، ويزج مثقفيه في السجون، ويرسل زعرانه لتكسير أصابع رسام تهمته الأولى التعبير عن هموم شعبه؟ أم إنه يحق لنظام ‘وطني’ ما لا يحق لغيره؟
هذا السؤال يحتاج إلى الكثير من التأمل والتفكير، وهو ليس بالسؤال البسيط على الإطلاق وهو لا يتعلق بك وبموقفك شخصياً، إنما بمواقف الكثير مما كانوا ولا يزالون محسوبين على المشاريع الماركسية وعلى المشاريع القومية، والذين لا يشكك أحد في وطنيتهم، لكنهم ورثوا ماركسية، بدون قيم الحرية، فكانت مجرد ستالينية، وورثوا مشاريع قومية بدون قيم الحرية أيضاً، فكانت مشاريع دولة قومية استبدادية، ظاهرها ضد الكولونيالية وباطنها متواطئ معه. إلا أن هذا الموضوع شائك وطويل، وفي صلبه يكمن السؤال:- ما معنى اليسار اليوم؟ ماذا يعني أن تكون يسارياً في عالم انهار فيه الاتحاد السوفياتي من ناحية، وانتهت مشاريع التحرر الوطني في الكثير من دول العالم الثالث إلى مشاريع استبدادية تسلطيه، لا تسعى فيها الأنظمة لتحرر شعوبها إنما للتحكم فيها وفي خيراتها.
إن معظم المتحمسين للثورة السورية وأنا احدهم ، قلقون على مصير سوريا ويخشون من الآتي غداً. يخافون من التآمر على الثورة، يخشون من تقسيم سوريا لدويلات، ويخشون من الغول الطائفي. الخوف على سوريا ليس شرعياً فقط إنما ضروري أيضاً. إلا أن القلق الشرعي لا يمكنه أن يغلف المواقف، وأن يكون بديلاً عن حسم الوجهة الأساسية للصراع الحاصل هناك. وبالتالي فأن حديثك عن الحاجة للإصلاح وبان سيادة الرئيس والقيادة السورية ‘قالت هذا الأمر.. مؤكده أن هناك حاجة لإجراء إصلاح حقيقي’، اقل ما يقال فيه إنه تمييع للمواقف وتصفيق للنظام.
عزيزي محمد
لقد قررت أن تقف مع هذا النظام، هذا هو الموقف الأساسي الذي يستدل من تصريحاتك، فأنت لا تقف على الحياد، لقد وقفت مع النظام. فأحياناً هناك أهمية ليس فقط لما يقال إنما متى يقال وأين يقال. اخترت الحديث للإعلام السوري وأنت على علم يقيني بأن النظام السوري سوف يستعمل حديثك في معركته الداخلية وسيحتمي باسم فلسطين التي جئت منها والتي تحدثت باسمها (وكالة سانا وصفتك رئيس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948..) وبالتالي فان الحديث الذي يقال هنا، له وقع آخر عن الحديث الذي يقال هناك. بهذا المعنى فقد وافقت أن تكون أداة في يد نظام يخوض معركة تكسير عظام ومعركة إبادة ضد شعبه.
وعليه فإن اختباءك من خلف مقوله أن ما يحدث في سوريا هو من ‘خصوصيات الشعب السوري الشقيق’ لهو أمر يثير الاستهجان، وينم عن استهبال لعقل المستمع ولحساسيته الأخلاقية. أولا، منذ متى كانت قيم الحرية والعدالة بحاجة لجوازات سفر؟ وهل ترك الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي تنتمي إليه أي قضية اعتبرها نضالا تقدميا تحرريا في العالم إلا وتضامن معها من دون أن يعتبر ذلك ضربا من التدخل بشؤون الآخرين؟ وهل ما يجري في سوريا شأن سوري داخلي تماما؟
ألا يعنينا بصفتنا بشرا أولا وبصفتنا عربا ثانية؟ ألا يعنينا انتصار قيم الحرية والكرامة؟ ألا يعنينا أن يستعيد الشعب حريته وسيادته؟ ألا يعنينا أن تستفيق هذه الأمة من سبات دام 400 عام؟ وهل كنت تقول الشيء ذاته لو كانت الثورة في السعودية مثلا؟ وهل قلت الشيء ذاته أبان الثورة المصرية؟
الموضوع ليس أن القضية شأن سوري داخلي كما تدعي، لكن يبدو أنك تعتقد أن القضية التي يناضل من أجلها الشعب السوري لا تستحق تضامنا منك. هذا هو الموقف الحقيقي في نهاية الأمر، وما الحديث عن عدم التدخل سوى عذر.
زد على ذالك إن حق تقرير المصير، والذي يشتق منه مبدأ عدم التدخل، هو حق للشعب في أن يقرر مصيره بنفسه، وليس حق للنظام أن يقمع شعبه. حتى يصبح مبدأ عدم التدخل نافذا أخلاقيا، على بنية النظام السياسي أن تكون ممثلة للإرادة الشعبية، عن طريق الانتخاب الحرّ والمباشر والمشاركة الشعبية. فقط عندها يجوز الحديث عن عدم التدخل لأن هذا معناه في حالة كهذه تدخلا في الإرادة الشعبية، وفي الرغبات والخيارات الحرة للناس.
في الحالة السورية الحديث عن عدم التدخل ما هو إلا عبارة عن إعطاء الضوء الأخضر لنظام قامع للاستمرار في قمعه، وبالتالي فأنت لم تقف موقف الحياد على الإطلاق. لقد وقفت الى جانب النظام.
أما الحديث عن تبرير موقفك من خلال الإشارة الى الموقف الإسرائيلي والأمريكي، رغبة منك أن لا تجد نفسك في نفس المعسكر، فأقل ما يقال فيه إنه تعبير عن كسل فكري.
أولاً، ليس من الواضح أين تقف إسرائيل وأمريكا. في الحالة المصرية خرج الرئيس أوباما بعد أسبوعين معبرا عن رغبته في استقالة مبارك، أما في الحالة السورية فقد طمأنت كلينتون القيادة السورية بأنه لن يكون هناك تدخل عسكري. طبعاً أمريكا لا تحلم بالديموقراطية، وتبني حساباتها على المصالح وليس الأخلاق والمبادئ.
ثانياً، عزيزي محمد، وفقط للتذكير،فقد وجدت نفسك أكثر من مرة تقف مع أمريكا. عندما سقط نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا كنت مع أمريكا، وفي اتفاقات أوسلو الذي صوتم الى جانبه، والذي بموجبه ولدت السلطة الفلسطينية، جاء بمباركة أمريكية.
أسوق هذا الأمر ليس كمأخذ إنما للإشارة أنه أحياناً لهو ضرب من الكسل الفكري اتخاذ المواقف بموجب الإجابة على السؤال:- أين تقف أمريكا؟ أمريكا ليست الإله القادر على كل شيء. أحيانا أمريكا تساق لمواقف ليست متحمسة لها إنما تفرض عليها.
الربيع العربي يفرض على أمريكا ترتيب أوراقها من جديد في المنطقة ويحتم عليها اتخاذ مواقف تختلف عن مواقفها التقليدية، ليس حباً في العالم العربي وليس غراما مفاجئاً في الديموقراطية، إنما لإنها ترغب في مجاراة الأمور والأهواء والأمزجة السياسية في المنطقة. إن اختزال الربيع العربي الى مؤامرة واحدة كبيرة ما هو إلا قبول بدور الضحية التاريخي، وانعدام الثقة بقدرة الشعوب العربية في أن تقوم بأي دور مبادر وايجابي وفعال في التاريخ.
ولا يمكنني أن انهي رسالتي هذه بدون نغمة شخصية. لا يستطيع القارئ والمستمع إلا أن يستشعر أن الموضوع الأهم في المقابل هو تصفية حسابات مع د. عزمي بشارة، لا بل التحريض عليه. كنت ولا أزال اعتقد أن د.عزمي بشارة لا يمتاز بالمثابرة وطول النفس في المواقف. إلا أن الموضوع في نهاية الأمر ليس د. عزمي بشارة، ولا يمكن إخضاع الموقف من سوريا ومن الشعب السوري لحسابات داخلية صغيرة. ويحق لـد.عزمي بشار أن يتخذ مواقف صائبة أحيانا، ومن غير المعقول اتخاذ المواقف فقط من أجل التمّيز عما يقوله د.عزمي بشارة. زد على ذلك يحق لي أن أتساءل ماذا كنت ستقول عن مواقف د. عزمي بشاره فيما لو أنه دعم النظام السوري ووقف مع النظام ضد الشعب السوري؟.
لقد هاجمتم د. عزمي بشارة حين وافق على لقاء القيادة السورية، وأدار ظهره للمعارضة التي كانت تقبع في السجون، وعندها كان الهجوم مبرراً من غير شك، فكيف الحال اليوم والنظام لا يزج مواطنيه بالسجون فقط لكنه يقصفهم بالمدافع وبالدبابات؟
ما هكذا، عزيزي محمد يجري التعامل مع القضايا الكبرى والمصيرية.