ما معنى تحالف الأقليات؟
سليمان تقي الدين
يتردد، في غير مجلس، الحديث عن تحالف «الأقليات» كضمانة ضد سيطرة «الأكثرية» واحتمالات تسلطها على الدولة والمجتمع. ظهرت هذه النغمة في بداية الحرب الأهلية اللبنانية واختفت بسرعة أمام تطاحن المجموعات الطائفية كلها. وظهرت مجدداً مع اضطراب الوضع اللبناني وارتفاع القبضة الأمنية السياسية السورية وتفلّت الجماعات من انتظامها السابق، ثم عادت بقوة مع اندلاع الأزمة السورية، حتى صارت نظرية رائجة تزعم أن «تحالف الأقليات» يضمن مدنية الدولة ويصد الموجة الإسلامية الأصولية المتطرفة وآثارها على الحريات العامة والفردية وحقوق الجماعات الطائفية الصغيرة.
حين استولى حزب البعث على السلطة في سوريا (1963) وحصلت «الرِّدة التصحيحية» (عام 1970)، على حد تعبير أحدهم، اتهم خصوم النظام تلك السلطة بأنها تحالف أقليات. ضمناً نشأت السلطة من مؤسستين كانتا تستوعبان طموحات الفئات الريفية والفقيرة والجماعات المقيمة في أطراف الحواضر السورية الكبرى، كالمدن التاريخية ذات الدور التجاري ودور العائلات السياسية التقليدية، ونعني بذلك مؤسسة الجيش ومؤسسة حزب البعث. لكن السلطة الفعلية لم تكن في واجهة الإدارة السورية التي فيها علويون ودروز وإسماعيليون ومسيحيون. فلم تكن السلطة يوماً شراكة بين رموز هذه المجموعات بقدر ما كانت مركزية ومحصورة في يد شخص واحد يديرها بواسطة عناصر سعى إلى إظهار واجهة سنية كبيرة فيها. بل إن تاريخ تطور سوريا الاجتماعي في العقود الأربعة الماضية أكد أن المصالح الاقتصادية والاجتماعية لدى البرجوازيات، ولا سيما سُنة المدن، وجدت ملاذاً وشراكة وحصانة في هذا النظام، ولو في ظل القليل من هوامش الحريات السياسية. فإذا كانت نخبة علوية صغيرة قد تمتعت بنفوذ كبير سياسي أمني ثم اقتصادي، فهي اندمجت مع مصالح الرأسمالية السورية وشكلت المفارقة الكبرى لنظام سياسي قراره السياسي في يد فئة ونظامه الاقتصادي يتطور وفق القواعد الليبرالية. في صورة أوضح استطاعت الرأسمالية السورية المدينية، ذات الغلبة السُنية، أن تحوز على امتيازات اقتصادية كبيرة، بينما حصلت المجموعات الطائفية الأخرى كمجموعات على بعض فتات الامتيازات السياسية من دون أن تتحول إلى شريك حقيقي. بهذا المعنى نحن أمام النموذج الطائفي اللبناني نفسه وآلياته، مع الفوارق طبعاً، فلا سلطة علويين صارت سلطة كل العلويين، ولا رأسمالية السُنة أفادت المناطق الريفية السُنية. تلك إشكالية يمكن فهمها من خلال منظومة خاصة في مجتمعات تعددية بكل معنى التعدد الإثني والطائفي والجهوي، وبالمعنى الاجتماعي الذي تتكوّن فيه الطبقات في شبكة متداخلة مع الشرائح والمصالح الفئوية، وتقوم سلطة سياسية على تنظيم الحقوق وتوزيعها بين هذه الفئات.
بشكل أو بآخر تبدو الدولة متربعة فوق المجتمع وصانعة له، وتبدو السلطة القابضة على السياسة والأمن، وإلى حد ما الاقتصاد، عنصر التوحيد، أو عنصر المزاوجة أو المحالفة بين المصالح المتعارضة. فهناك مارونية سياسية وعلوية سياسية وسُنية سياسية وشيعية سياسية، مع اختلاف عناصر قوة كل جماعة. تتماهى الدولة إلى حين مع هوية الفئة المسيطرة، وحين تنفجر التناقضات الاجتماعية يطول أمد تبلور البديل الطائفي والبديل المدني. فقد تعثر الإسلام السياسي في لبنان، ولا يزال، عن إنتاج هيمنة إيجابية كما فعلت المارونية السياسية، ويتعثر إنتاج سُنية سياسية في سوريا دولتية لأنها لم تكن غريبة في مصالحها عن النظام ومستسلمة طوعاً وبالإكراه في آن لاستلابها السياسي. هكذا يؤدي مسار تفكك النظام إلى تظاهرات من النوع الذي شهدناه في لبنان في الأحزاب الإسلامية المسلحة، ولو تحت راية وطنية، ونشهده في الجماعات الإسلامية المسلحة في سوريا. فحيث تختنق السياسة بالقمع أو بأشكال من القوة ويندلع العنف لا مكان للقوى السياسية المدنية وللمشروع الديموقراطي. نجحت المارونية السياسية، بالحرب الأهلية والعنف، على كسر مشروع الحركة الوطنية شبه الديموقراطية، ونجح النظام السوري، بالعنف، على كسر مشروع التغيير الديموقراطي. عند هذا الحد لا تلتقي الأقليات إلا لأن الجسم الأكثري السياسي من الشعب صار «قطعة أو شقفة أو جزءاً» من كل، فصار المجتمع نفسه مجموعات، مهما اتخذت من هويات، ضعيفة أمام سلطة النواة العسكرية المتماسكة لأي نظام. ومن الوهم الحديث عن تحالف أقليات حين يصير الأكثري عملياً أقلية بالمعنى السياسي، لأن الحروب الأهلية لا تصلح طريقاً للتغيير الديموقراطي، بل تؤدي إلى شكل من أشكال التناوب بين القوى الأكثر قوة وتنظيماً قبل أن تستعيد السياسة دورها السلمي وتقوم وحدة المجتمع على مبدأ المساواة.
وعلى فرض أن الجماعات تعي نفسها بصورة متخيّلة غير واقعية في سوريا وفي لبنان، وهذا ما يحصل عادة، فتلهج بفكرة تحالف الأقليات أو تمارسها بواسطة ممثليها، فهي لا تكون بذلك سالكة طريق إقامة الدولة الحديثة بل استيلاد سلطة هجينة لها مصادر قوة لكن ليس لها مصادر شرعية لسلم أهلي ولمجتمع مستقر. هكذا يعبث التحالف الشيعي الماروني بفكرة البحث عن صيغة لدولة كل اللبنانيين، ويعبث أطراف المنظومة السورية الحاكمة بفكرة الدولة كذلك، ولو قدروا على العصيان عسكرياً بالسلطة. وفي المشرق العربي كله تنتج ثقافة الإسلام السياسي السلطوية بجميع تياراتها أنظمة جمعية أو تجمعية تركيبية ولا تنتج دولة. وليس أدل على ذلك من التاريخ السياسي الذي أعقب سايكس ـ بيكو، الذي فكّك وركّب دولاً ولم يستطع بعثا سوريا والعراق أن يتوحّدا ولا أن يحتفظا بالأقاليم التي ورثاها عن سايكس ـ بيكو. إنها مسألة عربية بامتياز.