ما يحدث الآن في سوريا.. يعني نهاية العالم المتمعدن
محمد كتيلة
على ماذا تقفل النهارات أبوابها إن وجدت وبان منها ما يشبه الآخرة، وماذا لو تأخرت نقالات قوافل جثامين الضحايا وعربات الأشلاء عن الوصول في اللازمن، إلى أقرب مقبرة أو حفرة أو ذاكرة، قبل حلول المساء المعفر بشظايا لفائف القذائف واللحم الآدمي المنثور في الهواء وفي كل بيت وشارع على الأرض الطيبة ؟؟ وهل يعقل أن تتركوهم هكذا في مواجهة الجنون وعواء الليل والوحوش، عرضة للقوارض والعتمة ولصوص الجثث والصبايا والأطفال والجرحى، وقطاع الطرق والبيوت والمدن والقرى … في أي وقت أنتم من هذا الجنون الأعمى، في أي سديم يا عشاق سورية… ما شكل الأيام التي تستعصي عليكم وعلى الكلام ولا تمر، وكيف يهبط عليكم الليل، من أية فرجة أو زاوية بين الرصاص الذي يغطي أديم الأرض ووحل السماء، ما هي جهات الليل، وهل يأتي من الحداد أم من السواد ، وفي أي شكل من أشكال الموت يأتي وإلى أين يمضي بكم بعد الرماد؟؟؟… هل تنامون وقوفاً أم جلوساً، هل يأتيكم النعاس من الضجر أم من القهر أم من الخوف وإنصهار الأبدان، ومتى يزوركم ويحل فيكم ضيفاً ثقيلاً… في أول الليل أم في نهايات العذابات المتواصلة والآسى الذي ما أن ينتهي يبدأ ولا ينتهي، أم أنه يأتي من الخوف وبعد إزهاق الأرواح وانصهارها في العتمة والعويل والصراخ المحروم من البكاء …وعندها، أي إذا ما هدكم التعب وأعياكم، من سيحرس البيوت لو نمتم كيلا تتبخر منها الأجساد التي كتموا أنفاسها وقطعوا أوصالها، وكيلا تسيل وتذوب على بعضها وتتفحم… ومن سيحمل البيوت كيلا تهدم فوق رؤوس من لا يستطيعون النعاس والنوم فوق الرماد وتحت الركام على وسائد حجرية من دم وبكاء!
مزقوا الحياة، هشموا مراياها…تصدعت الأرض من ثقل أقدامهم ووحشيتهم المفرطة بالتوحش كالغيلان… نهبوا أجمل ما في الذاكرة من مقتنيات وولادات وأعراس، نهبوا أدوات الزمن ومحتويات الأحياء والأشياء والكتب والتاريخ، ولا شئ الآان أوضح من الموت إلا بشاعة الموت ذاته، والرماد يعلو والنيران لا تنطفئ… تعنونت الحياة بالكارثة، تكرار بهيمي لفظائع يومية مروعة لا تنقطع، أهوال فظيعة من الدمار…مهرجان دموي صارخ يدوي فيه الموت على صرح الهلاك، ولا شئ آخر يظهر من فوق بقعة الضوء اليتيمة المتخفية في الظلام وعتمة الخراب، إلا هذا الشعب السائر في موته كالسائر في صلاة أو في منام، ليصل إلى بداية طريق لا بد أنه سيؤدي في القادم من الأيام الحبلى، إلى كل ما هوجديد من حياة مختلفة، لن يختلف عليها أحد.
النظرة إلى ما يجري في الحياة هناك ومن بعيد، صار لها معنى غامض وكريه، غائم وشائك، وطعمه مالح وجارح، تفح منه روائح الدم، إذ لا تستطيع أن تصطفي ذاتك المبللة بدم الأبرياء والصور المتلاحقة لأحدث مبتكرات القتل والتنكيل والتمثيل بالضحايا وهي ما زالت تتنفس ويجري في عروقها الهواء، من دون أن تنتهي ومن دون أن يذلك الشعور بالإخفاق، فالضعف سيفرفطك والهوان حتماً سيؤذيك مما ترى إذا كنت فعلاً ترى، وأنت المكوي الجالس على جمرات البعيد، لا حول لك ولا قوة ، أو هكذا تظن – وإن بعض الظن إثم ولا يغتفر – مجرد شاهد خائر القوى وعلى الهامش ولا يحتاجك أحد،وصوتك لا يصل إلى أبعد منك، ومطارد ومشرد عن أوطانك ومبعد عن أهاليك ومن كيانك وأحاسيسك، ومع اللاوقت واللازمن تغدو جيفة، لا مكان لها ولا دور إلا في حاويات القمامة، أو على الهامش، أو أن تنهض على قلبك وقدميك وتتعود على النهوض وعلى ما يقوله ويوشوش لك قلبك، فإذا ما خطوت خطوتك الأولى لا بد أنك ستمشي وإن مشيت ستمشي إلى الأمام وستنسى ما كان في الوراء،
ننظر الآن إلى ما يحدث وننتظر في أكياس فراغ البؤس التي نرتديها، وكأن الضحايا تتوالد من حالها وتمضي إلى المجهول لوحدها ومن حالها، وكأننا أسرى بكامل القيود في متاهة، في عالم غريب،لاوجود له في التاريخ ولا في الأساطير… ما يحدث ملحمة كبرى، يجتمع فيها القاتل بكل ما يملك من أسلحة فتاكة مع الضحية بكل ما اختزنت من إرادة، والخاسر والرابح فيها هو الضحية لأنها باقية في عتمة الأرض وفي نهارها الذي سيبزغ في النهاية، أما القاتل فأقل ما يمكن أن نقول فيه: ذاهب في نهاية النهاية إلى زوال…. ما يحدث الآن، يعني تعري الإنسانية من إنسانيتها، إضمحلال الفكر، ذوبان الأديان واندحارالفلسلفة وانصهارالحضارة المزعومة في بوتقة العدم، يعني الخراب والدمار ونهاية العالم ، إفلاسه وبؤسه، واستسلامه طائعاًً لنزعة الشر، بعد أن وصل بصمته وابتعاده إلى أبعد مدى، إلى هاوية الجحيم، صاغراًً لهمجية لا مثيل لها، تتصدر حياتنا وأول الأخبار في العالم وآخرها ، وحشية تصفع وجوهنا، تعمينا، وحشية هي فضيحة هذا العالم الذي كنا نفترض وجود أصحاب الضمائر الحية المتآخية فيه، ومن هم أحياء وعلى قيد الحياة أو على هيئة بشر، ولكن وعلى ما يبدو وكما هو واضح وضوح الضحايا في الزمان والمكان وفي كل ثانية موت…. أنه الوهم ونحن نحلم بهذا الوهم، وكأن هذا العالم المتمدن المتمعدن، كذبة كبيرة علينا أن نصدقها وكم نخشى أن نحرم منها… من المخجل ومن المستغرب، أن تصبح وتمسي الضحايا اليومية، هي أصدق وأوضح ما في الكون في هذا الزمن الخالي من الرأفة…أفلا يستحقون منا وبجدارة، كلمة شكراً، لأنهم يموتون بالنيابة عنا أيضاً… فأين هي الكلمة وأين هو رد المعروف والجميل، ومتى يبدأ الفعل الصادق لنصافح قلوبهم على الأقل الأقل، ولومن بعيد، ومتى ننتهي من مدح الضحايا والبكاء عليهم ؟؟
منذ الكثير من الوقت المستعصي والموت المؤذي لصوت الحياة الخجول فينا، أحاول الكتابة عن خوف البشر من حولي وأنا منهم، عن ضمور الإبتسام في الوجوه والقلوب، بسبب المآسي والوجع المتنامي على الشآم، على سوريا شعباً وحضارة وتاريخ، خوف ينبع من أساس وجودي يسمو بالإنسان ويطير يه إلى اماكن واضحة في روحه، تمكنه من إيجاد طريقة أو سبيل ما، خوف مبعثه القلق والتوجس والحيرة والإضطراب ونفور الدم في الشرايين وغليانه، خوف بسبب إنخطاف الروح وانشغالها بمصير الأهل والذكريات القديمة الحميمة، القريبة البعيدة، خوف يحث الكائن الحي، يحفزه على إحترام الكائنات التي هو منها، يدفعه للبحث عن الخلاص وبكل الإمكانيات، خلاص البشر العزل الأبرياء… الخلاص من هذا الموت اللاإنساني المرعب ومن القاتل الجائر…أحاول وأحاول، مزج ساعات الألم والعذابات الطويلة برايات الأمل البيضاء الصغيرة، لكي أبقى صاحياً، لأنني إخترت الحياة ومنذ زمن القهر الأول كفلسطيني، واخترت أن أقف إلى جانب من كانوا دائماً وأبداً، يقفون ويموتون من أجلنا ومن أجل العروبة وحباً بفلسطين… أهل الشآم الذين إختاروا إرادة الحياة من بطن الموت …أما آن أوان الضمير الإنساني أن يتعلم منهم وأن يتكلم .. أما آن أوان البشر أن تغلق أبواب الصمت إلى ما لا نهاية وتخرج إلى النهار .. أما آن أوان الإأنسان الحر أن يتحرر من كونه شرطياً وسجاناً على صراخه… آن لنا أن نستمع إلى ما يقوله لنا داخلنا ما دام حياً وما دمنا أحياء.
كاتب فلسطيني يقيم في كندا