صفحات الثقافة

ما يكتبه محمد أبي سمرا


يوسف بزي

يروي محمد أبي سمرا سيرة “موت الأبد السوري”. وهي بالأحرى رواية للحقبة المديدة من حكم حزب البعث لسوريا، وإحتلاله لبنان والوصاية على دولته وإدارته واقتصاده، وإمعانه في تخريب إجتماعه وعمرانه، وتوطيده العنف والإرهاب وتغذية أسباب الحروب وإدامتها. عدا عن تسلطه الطغياني على سوريا وأهلها، تسلطاً أحال الديار السورية إلى بلد الخوف والصمت والخواء.

وما دوّنه أبي سمرا، أو ما جمعه من حكايات ومرويات وشهادات، في هذا الكتاب، هو سعي الى “تاريخ” مكتوب للوقائع وتسجيل للحوادث المعيوشة، التي اختبرها الناس. وبالتالي، منح هذا التاريخ معناه ومضمونه. فأن نقول “الوصاية السورية على لبنان”، فهذا ما يجب ان يحيلنا إلى ذاكرة مكتوبة. وأن نقول “حكم البعث في سوريا”، فهذا ما يأخذنا إلى شهادات موثقة وقصص فعلية. فيكتسي التاريخ حقائقه وصوره. فيكون زمناً بشرياً يخرج من مدار “القضاء والقدر” ويتصل بارادة الناس ومشاعرهم ومصائرهم ورغباتهم ومخاوفهم وتطلعاتهم..

في “موت الأبد السوري” الذي بدأ أبي سمرا بتأليف مادته العام 2006، بقصد استكشاف أفاعيل وصاية النظام السوري على لبنان، والكشف عن اسباب الحدث اللبناني الكبير في ربيع عام 2005، مع اندلاع “انتفاضة الاستقلال، فكان انسحاب الجيش السوري ومخابراته في ربيع ذاك العام.. سرعان ما سيتوسع عمل أبي سمرا، مع اندلاع الثورة السورية منذ آذار 2011 وحتى اليوم، ليشمل ايضاً أسباب انتقال المواطنين السوريين من حال الصمت والخوف الى الاحتجاج والثورة وغزارة البوح.

ومع “اتصال” المرويات اللبنانية بمثيلاتها السورية، نكتشف تلك الرواية القاتمة والكبيرة لـ”وحدة المسار والمصير” التي سطرها الحكم البعثي ـ الأسدي في كل من لبنان وسوريا، أو في بلاد “المهانة والخوف” (حسب عنوان كتاب آخر لمحمد ابي سمرا).

وتقوم الرواية البعثية هذه، حسب كتاب “موت الأبد السوري” على تاريخ دموي وتعسفي، عدا عن شدة الفساد والانحطاط الأخلاقي. فيكفي أن نستعرض بعضاً من عناوين فصول الكتاب هذا، للدلالة على هذا التاريخ ومضمون روايته: جامعة الخواء البعثي، بروليتاريا الوظائف، الهيبة والرثاثة، محاكمة بعثية، الفردية المختنقة، عشائر وعمران عشوائي، سنوات الترويع، مشهد إعدام في حلب، سنة في سجن الحرجلي، في سجون حلب ودمشق، عودة الى السجون، شبكات مافيا الفساد والتهريب، صالون لضباط المخابرات، عنف الحارات والعشائر.. الخ….

ويلاحق أبي سمرا، في تدوينه لهذه الرواية، لا الحوادث وحدها، إنما أثرها في النفوس وانفعالاتها، وفي مشاعر ضحايا تلك الحوادث. كما يعقد تلك الحوادث على خلفيتها السوسيولوجية وسمات أمكنتها، وكذلك ربطاً بمواضٍ أو بأخبار مشابهة، لتتسق الحكاية الفردية والشخصية مع تاريخ عام. فتكون الحكاية مرآة لحكايات كثيرة لا حصر لها لا تزال مكتومة.

في روايته الأدبية “سكان الصور”، فض ابي سمرا الحجب عن المكنون الاجتماعي وصراعاته الثقافية ـ القيمية للبنان ما قبل الحرب، فاضحاً النوازع والغرائز للجماعات النازلة حديثاً في المدينة، ودور هذه النوازع والمعتقدات في توليد العنف، المبتدئ أسرياً والمنتقل الى عنف جماعي، ينقلب حرباً مدمرة. هكذا وعبر الأدب و”الانتباه” السوسيولوجي يكتب ابي سمرا رواية سياسية، أو بالأحرى تاريخاً موازياً هو أقرب إلى ذاكرة المعيوش منه الى الحوادث العارية.

لكن أبي سمرا يذهب بالرواية السياسية مع كتابه “أقنعة المخلص ـ شهادات في الشيعة العونية وإمامها … (تأليف مشترك مع وضاح شرارة) الى دمج تقنية التحقيق الصحافي مع الاسلوب الأدبي والتحليل السوسيولوجي. ثم انه مع كتاب “طرابلس ـ ساحة الله وميناء الحداثة” يضفي قوة البحث الأكاديمي على هذا الدمج بين تقنيات الصحافة والرواية الأدبية والمعرفة السوسيولوجية، وهو الذي كان قبل ذلك مع “بلاد المهانة والخوف” (2004) أدخل أدب الرحلات الى “فنه” في الرواية السياسية، إذا صح التعبير.

وإذا كانت الثورات العربية، وما رافقها من وسائل تعبير وتقنيات في القول والتصوير واستخدام اللغة، عدا عن أفاعيلها العميقة في زلزلة “النظام الثقافي” العربي، تفرض لزاماً إعادة التفكير ليس فقط في اساليب العمل الصحافي (كما أشار ابي سمرا في كتابه)، لكن أيضاً في أدوار الكتابة وفي الحساسية الأدبية وفي التأريخ.

إن اقتراح محمد أبي سمرا، في “موت الأبد السوري”، في الكتابة الميدانية، وفي الرواية نفسها وفي إخراج حوادث المجتمعات والأفراد الى حيز السيرة المدونة، على ما يكون هذا التدوين تحقيقاً وتحليلاً وتصويراً، هو اقتراح ما بعد السياسة او الأدب في آن، ما بعد الصحافة أو الرواية في آن. اقتراح “ثوري” يحطم ذاك الصمت الذي يغلّف تاريخنا.

[ موت الأبد السوري” (شهادات جيل الصمت والثورة)، دار رياض الريس، بيروت 2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى