متاحف الذاكرة/ سلام الكواكبي
Never again تسمع هذا التعبير في كل اللقاءات البحثية أو التكوينية التي تؤطرها منظمات دولية حكومية، أو غير حكومية، حول مواضيع ترتبط بالمجازر والفظائع التي ارتكبت في هذا العالم في تاريخٍ قريب من محتلين أو مستبدين. كما مثلاً فيما يتعلق بالهولوكوست، أو مذابح الأرمن، أو مجازر رواندا، أو التطهير العرقي في البوسنة، أو التعذيب المنهجي في السجون العربية، كما معتقل تزمامرت المغربي أو أبو غريب العراقي/ الأميركي.
تعبيرٌ يحظى بإجماع من كل المهتمين بالشأن العام والقضايا الحقوقية والشأن الإنساني. حتى أنه يمكن أن يُستعاد خطابةً من ممثلين عن حكوماتٍ أو جهاتٍ غير حكومية، نظّرت يوماً لفكرٍ ساعد في وجود هذه المآسي، أو أنها مارست التطهير العرقي في “حياةٍ أخرى”، وتحولت بقدرة قادر إلى جهاتٍ “محترمة”، ومعترف بها، وبما تمثّله على المشهد الدولي، في ضوء عمليات إعادة التدوير المستمرة منذ قرون على سطح هذا الكون سياسياً وأخلاقياً، لكثيرين من السفاحين والمستبدّين والطغاة.
وتنشط الجماعات المدنية، محلية أو إقليمية أو دولية في تطوير التفكير والتمحيص والإشادة بهذا التعبير الأخلاقي، والذي يمكن أن تدور بشأنه مؤتمرات وندوات، بغثها وسمينها. وكذا تصوّر الأفلام الوثائقية والكتب المصوّرة التي تعالج هذا المفهوم من أبعاد عدة. وتُنظّم الجامعات، كما المدارس، رحلات تعليمية إلى “متاحف” الذاكرة، كمعسكر أوشفيتز في بولونيا أو مدينة سراييفو في البوسنة. كما قامت دول عديدة عرفت تحولاً ديمقراطيا بعد سنواتٍ عجاف من الاستبداد العسكري، كما الأرجنتين وإسبانيا، برصد الميزانيات لإشادة مواقع مرتبطة بالتاريخ المؤلم الذي خاضته، وانطلاقاً من مفهوم هذه العبارة. وتعتبر هذه المتاحف ركناً أساسياً من أركان العدالة الانتقالية. وفيها تقول مديرة متحف الذاكرة في بيونس أيريس إنها ترغب في أن يكون عرض فظائع الحكم العسكري “إزعاجا لمن يشعر بالراحة، وإراحة لمن يشعر بالانزعاج”.
وهناك دول، ألمانيا مثلاً، يتداخل فيها التاريخ النازي وفظائعه والتاريخ “الشيوعي” وفظائعه
“يجب تجاوز تعبير “لن يحدث مطلقاً مرة أخرى” بعبارة أكثر ملاءمة لواقع استمرار القتل”
(مع جواز عدم المقارنة وجواز المقاربة)، فهي تعتبر أن الذاكرة من أهم أدوات الوقاية من التكرار. فتكثر في برلين مثلاً المواقع التي تعتني بحفظ هذه الذاكرة من الجدار “الغبي” الذي أقامه الشرقيون في بداية ستينات القرن الماضي ضمن المدينة، والذي اعتبرت في كتابات سابقةٍ أن تاريخ البدء في تشييده كان تاريخ بداية النهاية لألمانيا الشرقية “الديمقراطية”، كما كان يحلو لبعضهم أن يصفها. إضافة إلى الجدار، هناك متحفٌ للمقاومة الألمانية ضد النازية، يوضّح حقيقة وجود خلايا ناشطة إبّان العهد النازي، قوامها ألمانٌ كانوا يؤمنون بكارثية هذا العهد، وما يحمله من عقائد مشوّهة. وكذا صرح للهولوكوست، أشادته شركة الإسمنت التي زودت معسكرات المحرقة النازية بمواد البناء.
ومن الأماكن التي ترتبط بذاكرة كل عربي عموماً، وسوري خصوصاً، متحف المخابرات الألمانية الشرقية (الستازي) الذي يقع في سجنها الأهم في العاصمة، حيث كان الحي محاطاً بجدار عالٍ، ولا يمكن أن يسكنه إلا العاملون في المقر المخيف الذي حلّ مكان معسكر للقوات السوفييتية التي حرّرت برلين من النازية سنة 1945. في هذا المقر/ الفرع، كما نسميه في دارجتنا السورية، كل الشبه بما عهدناه من فروع الأمن، ومن “ميزاتها” الفنية والتعبوية، ففيه الاستقبال المحايد من كل إحساس إنساني، وفيه السراديب الطويلة ما تحت الأرض، بعتمتها ورطوبتها وروائحها، وفيها زنازين التعذيب الجسدي، وأخرى للتعذيب النفسي. وقد توضّح أن من يتعرّض للتعذيب الجسدي، وكانوا كثيرين، لا يُرجى مبادلته مع الغرب، وبالتالي لا ضير في ترك آثار التعذيب على جسده. أما من كانت لهم “قيمة” تبادلية، فقد كانوا يوضعون في قسم التعذيب النفسي، لكي تتم حمايتهم من ترك الأثر، وبالتالي يمكن مبادلتهم أو بيعهم.
مات في المعتقل / الفرع مئات من البشر، وكان جُلّهم من الشيوعيين الذين لم يكونوا ستالينيين في مرحلة عمله ونشاطه الأولى. وبعد ستالين، انخفض عدد الموتى، إلا أنه لم يتوقف. ويُقدّر مدير المتحف العدد الاجمالي 900 شهيد بين 1945 و1989، وهو ما لا يُقارن بما “تُنجزه” معسكرات الاعتقال العربية في سنة واحدة. وما زال السجّانون الذين عملوا في هذا المرتع الرخيص للفكر الشيوعي الذي شوّهته أنظمة استبدادية يقطنون في الشقق المحيطة بالمكان، ولا يشعرون، إلا نادراً، بالندم على نشاطهم السابق. ويراقب سابقون من المعتقلين الزوار، لكي يكون الشرح أقرب ما يمكن من الواقع المؤلم.
مواقع مهمة علينا ان نتعلم منها الكثير، فربما قُدٍّرَ لنا يوماً إشادة ما يشبهها. في المقابل، يجب الحرص على ألا تتحول هذه المواقع إلى بندٍ على جدول زيارات سياحي، ما يُسخّف من الرمزية ومن المعنى. ويجب تجاوز تعبير “لن يحدث مطلقاً مرة أخرى” بعبارة أكثر ملاءمة لواقع استمرار القتل والتطهير والتعذيب في أماكن مختلفة من عالمنا العربي تقول: “أوقفوا القتل الآن”.
العربي الجديد