صفحات الرأي

مساهمة في نقد الإسلام السياسي/ ماجد كيالي

انصبّ النقد السياسي طوال العقود الماضية على الإسلام السياسي “السني”، بكل تنويعاته المعتدلة والمتطرّفة، السلمية والعنفيّة، الدعوية والجهادية، في حين أن الإسلام السياسي “الشيعي”، لاسيما ذلك الذي صدّرته إيران، ظل بمنأى عن ذلك تقريباً.

ثمة أسباب عديدة تفسّر ذلك، أولها، أن الإسلام السياسي “الشيعي” جاء محمولاً على جناحي الثورة الشعبية الإيرانية، التي أطاحت بنظام شاه إيران، الحليف لإسرائيل وللسياسة الاميركية في الشرق الأوسط. وبديهي أن هذا خلق نوعاً من الربط بين هذا التيار وبين “لاهوت التحرير” في أمريكا اللاتينية، لاسيما مع “الشبهات” التي كانت تحوم حول معظم تيارات الإسلام السياسي “السني”، التي بدت في اتجهاتها الرئيسة متصالحة أو متهاودة مع أنظمة الحكم السائدة. وثانيها، أن الثورة الإيرانية صدّرت قضية فلسطين في خطاباتها، وفي سياساتها الخارجية، بعد أن كانت إيران تعتبر بمثابة أكبر حليفة لإسرائيل في المنطقة، ماعزّز من شعبيتها في العالم العربي. وثالثها، أن إيران، وتبعاً لما تقدم، اشتغلت على دعم المقاومة الفلسطينية، وأنشأت “حزب الله” في لبنان، الذي اطلع بدور كبير في مقاومة احتلال اسرائيل لجنوب لبنان، وإجبارها على الاندحار منه (2000)، ما رفع رصيده عند الجماهير العربية.

المعنى من ذلك أن المجتمعات العربية، أو الأكثرية “السنّية”، لم تتعاط مع إيران وفق نظرة طائفية أو مذهبية، رغم أن هذه كانت تشتغل على خلق جماعات حزبية ذات طابع مذهبي في تلك المجتمعات حيث أمكنها ذلك. أيضاً، فإن هذه الأكثرية لم تتعاط مع “حزب الله”، الذي يفترض أنه حزباً للمقاومة الوطنية، على أساس طابعه الطائفي المغلق. وهذا وذاك دليل على أن “السنّة” لا يعرّفون أنفسهم باعتبارهم طائفة، فهم احتفوا بانتصار الثورة الإيرانية في حينه، واحتضنوا “حزب الله”، رغم طابعهما وخطاباتهما المذهبية.

لكن صورة إيران في المجتمعات العربية أصيبت بالتصدّع بسبب تواطئها مع الولايات المتحدة، التي يفترض أنها تعتبرها “الشيطان الأكبر”، باحتلال العراق (2003)، وبعد ذلك بسبب هيمنتها عليه، من خلال الميليشيات الطائفية التي تدعمها، والتي فرضت نفسها بمعيّة القوات الأميركية، وكان ذلك إيذانا بتفجّر النزاعات الطائفية في المشرق العربي، بقدر ماكان نجاحاً لإيران في تصدير الإسلام السياسي “الشيعي”.

ما كان لـ “لحزب الله” أن ينجو من هذه العدوى، رغم تغطّيه بالمقاومة، فهو أعد أيضاً كي يكون ذراعاً لإيران في المنطقة، وتم الحفاظ عليه كحزب مغلق من الناحية الطائفية، لهذا الغرض، فهو لم يفتح عضويته على اللبنانيين، حتى الداعمين له، رغم ممارسته المقاومة الوطنية المسلحة منذ ثلاثة عقود. هكذا بات هذا الحزب في أزمة، مع تغيّر الأوضاع في المشرق العربي باحتلال العراق، واستيلاء الإسلام السياسي “الشيعي” على السلطة فيه، وهيمنة إيران عليه. ومشكلة “حزب الله” أن كل ذلك حصل بالترافق مع وقف مقاومته ضد إسرائيل، منذ العام 2000، أي منذ 13 عاما، باستثناء لحظة خطف الجنديين الإسرائيليين 2006، والحرب المدمرة التي نتجت عنها. وفي ظل هذه الأوضاع بات هذا الحزب ينفّس عن طاقته المختزنة في الداخل اللبناني، كحزب طائفي وسلطوي، الأمر الذي كشفه أمام اللبنانيين.

هكذا جاءت الثورة السورية لتكشف حقيقة إيران وطموحها الإمبراطوري في المشرق العربي، وحقيقة حزب الله كأداة وظيفية في هذا المشروع، إذ بات الطرفان يدافعان عن نظام استبدادي، حكم البلد أزيد من أربعة عقود، وحولها إلى جمهورية وراثية، على الضد من إرادة أكثرية السوريين، حينا باسم الدفاع عن المقاومة المتوقفة منذ 13 عاما، وحينا باسم مواجهة المشروع الأميركي، الذي باتت إيران في حالة مساومة معه، وحينا آخر باسم الدفاع عن “مقامات” السيدة زينب والست رقية، وغير ذلك.

بالمحصلة فقد باتت سوريا ساحة للقتال بالنسبة للحرس الثوري الإيراني، وكتائب أبو الفضل العباس من العراق، وحزب الله من لبنان، والحوثيين من اليمن، بحسب فتاوى “الولي الفقيه”، أو المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران، ووفق تغطيات وخطابات الإسلام السياسي “الشيعي”، على مراوغته وسلطويته.

القصد من كل ذلك لفت الانتباه إلى أن نقد الإسلام السياسي “السنّي”، وهو ضروري ومشروع، لايمكن أن يستقيم من دون نقد الاسلام السياسي “الشيعي”، بدلاً من التغطية عليه وتبريره وربما مدحه، وهو ما حصل في الأغلب طوال العقود السابقة.

ولنلاحظ، مثلاً أن الإسلام السياسي “السني”، كما يتمثل بجماعات الإخوان المسلمين، غير مسلّح، كحزب الله في لبنان والعراق، ولا يوجد له مرجعية كـ”الولي الفقيه” في إيران، وهي دولة خارجية، سواء كانت السعودية أو تركيا. والإسلام السياسي “السنّي” لا يشتغل كمؤسسة مهيمنة في طائفتة المفترضة، على نحو الهيمنة المؤسسية لرجال الدين “الشيعة” في طائفتهم. وفوق هذا وذاك فإن جمهور “السنة” أصلاً لا يعرّف نفسه كطائفة، ربما لأنه لا يحتاج إلى ذلك لكونه أكثرية في مجتمعه. والأهم أن أي حزب، ولا حتى “الإخوان”، يستطيع احتكار تمثيل هذا الجمهور، المنفتح على كل التيارات القومية والليبرالية واليسارية والعلمانية والدينية، كما أكدت التجربة، وكما ثبت في مصر وتونس وسوريا. بالمقابل تحرص إيران على احتكار تمثيل “الشيعة” مباشرة، بدعوى “الولي الفقيه”، أو من خلال حلفائها، بوسائل القسر والإغراء والمصادرة والإخفاء، كما جرى في لبنان والعراق. وحتى في إيران جرى ذلك بالتخلص من آية الله طالقاني وآية الله منتظري وأبو الحسن بني صدر وفدائيي خلق ومجاهدي خلق، إلى مير حسن موسوي ومهدي كروبي وهاشمي رفسنجاني، الأمر الذي حصل مثله في لبنان والعراق.

في هذا الإطار، ثمة ملاحظات مهمّة جداً للباحث طارق عزيزة يعتبر فيها ” إنّ المذهب الشيعيّ أوّلُ مظاهر تسييسِ الدين، وتديينِ السياسة، في الإسلام”، لأن هذا الإنشقاق لم يحصل لخلاف على مقولة فقهية أو على قضية دينية، وإنما حصل على خلفية سياسية. وعنده فهم “كانت لهم أسبقيّةٌ في العمل التنظيميِّ أيضًا. فقد اعتمدَ أئمّتهُم على وكلاء يمثّلونهم في مناطق انتشارِ أتباعهم يقومون بدور التوجيه والتعبئة السياسيّة. كما أنّ تكريسَ “التّقيّة” أسلوبًا فعّالاً في مواجهة بطشِ السلطات التي عارضوها يُعدُّ من الأشكال الأولى للعمل السياسيِّ السرّيّ”. ويقول: “تختلف مؤسّسةُ الإفتاء السنّية عن الاجتهاد لدى الشيعة. فالفتوى ليست نصًّا شرعيًّا ملزمًا بالمطلق..أما أحكامُ المجتهد الشيعيِّ فملزِمةٌ لمقلّديه وأتباعه على اعتباره ممثّلاً للإمام المعصوم، ومخوّلاً بممارسةِ صلاحيّته.” (طارق عزيزة: “الشيعة بين العقيدة والإسلام السياسيّ: إيران نموذجًا”، مجلة “الآداب”، ربيع 2012).

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى