متحف الصور السوري/ راشد عيسى
عشية اندلاع الثورة السورية، قبل ثلاثة أعوام، بدا المصوّرون السوريون مرتاحين، مشدودين ربما فقط إلى مشاغلهم الفنية، كما لو أنهم فنانون سويسريون، يبحثون في ألوان الفراشات والغيم والشجر. القلق الكبير الذي كان يشغل حرفة التصوير، ونعني خصوصاً أصحاب الاستديوهات القديمة والراسخة هو الكاميرا الديجيتال وكيف أن هذه عطّلت عملهم، ما جعلهم أقرب إلى الإقفال، وبيع مقتنياتهم، ومعدّاتهم كأنتيكات.
لا مغامرات على مستوى الصورة الفوتوغرافية، مع فضاء ديكتاتوري مقفل لم يكن يسمح باستخدام الكاميرا في أي مكان، فأنت قبل أن “تستل” الكاميرا لالتقاط صورة تذكارية عليك أن تتلفت حولك أولاً. ما من مكان آمن لاستعمال الكاميرا، ولا سيما في قلب المدينة، حيث كل بضع خطوات يوجد فرع أمن أو سجن أو ثكنة عسكرية.
إن خطر لك أن تسجّل يومياتك بصرياً ستندم سريعاً. لقد حدث مرة لأصدقاء كانوا يلتقطون صوراً تذكارية في المدينة، فرحين بكاميرا ديجتال بين أيديهم، قبل أن يباغتهم رجال الأمن يطلبون الكاميرا. اقتطعت الصور، وصودرت الكاميرا لبعض الوقت، ولم تمرّ الحكاية من دون تحقيق. مرّت أيام قبل أن يرتاح الأصدقاء إلى أن الحكاية مضت على خير. حين شاع النبأ بين الأصدقاء والمعارف كان بعض ردود الأفعال يوبّخ الأصدقاء على فعلتهم، ردود تستغرب كيف يجرؤ الشبان على فعل ذلك، وليس كيف يُمنع المرء من ممارسة حقه البديهي في تسجيل الذكريات!
في إمكان السوريين رواية حكايات لا تحصى من هذا النوع (هناك من اعتقل حين كان يجمع الكمأ في أرض خالية على أنه يتجسّس لمصلحة العدو!)، ما يشير إلى سبب الفقر الذي يعانيه “متحف” الصورة السوري. فكرة المتحف هذه كانت قد بدأت تراود بعض المصورين بدعم من مؤسسات تنموية شبه رسمية، لكن من دون النظر إلى القوانين، والبنى، والحظر على الكاميرا، والمصور، والصورة. تماماً مثل كل الأفكار عن الإصلاح المزعوم.
وفي بلد لا وجود فيه إلا للصحافة المدجّنة كان من البديهي أن تغيب الصورة الصحافية أيضاً، أو أن تدجّن هي الأخرى، من يتذكر صورة صحافية، أي صورة، كان لها مفعول ما في إثارة الرأي العام أو التأثير به؟ حتى لو كان الحديث على مستوى كارثة وطنية مثل انهيار سدّ، أو غرق مركب، أو انهيار مبنى على رؤوس السكان.
في النتيجة، ليس هناك هذا الحضور للصورة الفوتوغرافية الفنية. هنالك فقط هذا العدد القليل من المصوّرين، الموهوبين نعم، لكن من دون مغامرات إبداعية تذكر. كذلك لا وجود لمؤسسات تحرص على تطوير فن التصوير، وإنشاء أجيال من المصوّرين.
الكاميرا عدو أول
يعلم النظام الحاكم في سوريا أن الكاميرا قوة وسلطة هائلة، وسرعان ما جاء الدليل الدامغ على صحة هذا الاعتقاد مع اندلاع الثورة السورية، حيث الكاميرا هي العدو الأول لرجال الأمن. ربما كان درساً للجميع اعتقال ذلك الشاب المصري، هاوي التصوير، مع بداية الثورة قرب الجامع الأموي، وكيف ظهر على شاشة التلفزيون السوري يقرّ بأنه يصوّر (يتجسّس) ويرسل الصورة مقابل المبلغ الفلاني. ليظهر لاحقاً بعد الإفراج عنه أنه ليس سوى شاب مندفع أراد أن يواكب الثورة السورية بعدما فرغ من تصوير جانب من أحداث الثورة المصرية. لكن ذلك لم يردع السوريين عن حمل الكاميرا، وقد كانت هنا أداة إخبارية، تريد أن توثق ما يجري، وتدحض رواية النظام الذي يكذّب أنباء التظاهرات. كانت الكاميرا وسيلة خلاص، وتحرّر.
بالطبع من الصعوبة أن تجتمع الحرفية مع الجرأة والشجاعة في حمل الكاميرا إزاء وحشية النظام، فمثلما ولد “المواطن الصحافي”، ولد كذلك المواطن المصوّر في غياب المصوّر المحترف المحلي، وفي ظلّ عدم السماح لمصوّري وكالات الأنباء العالمية، فقد اعتمدت هذه أحياناً على مصوّرين محليين، بسبب تعرّض مصوّريها إلى حوادث اعتقال وخطف وقتل، بعدما باتت سوريا من أخطر البلدان في العالم على حرية الصحافة. لكن المواطن المصوّر سيظلّ ناقص الخبرة، ومن الصعب في ظلّ هذه الأوضاع أن يكترث لفنية الصورة وجمالياتها، لذلك سنجد أن الصور التي حصلت على جوائز عالمية أخيراً هي لموضوع سوري ولكن مصوّريها لم يكونوا سوريين.
إلا أن المصوّرين المحترفين، لا يرون أن ذلك بلا جدوى، فبحسب المصور السوري عمار عبد ربّه فإن تسليط الضوء على الموضوع السوري، واستخدام مصوّرين سوريين هواة من قبل وكالات الأنباء، كما توفر القاعدة التقنية، سيفضي ذات يوم إلى تطوّر كبير في فن التصوير في سوريا، هذا بالإضافة طبعاً إلى فضاء الحرية الذي سيتحرك فيه المصوّرون الجدد، وحتى المحترفون، من قدماء المصوّرين السوريين المحترفين.
لكن غياب معايير الاحترافية العالية عن صور السوريين المتدفقة يومياً لا يلغي أهميتها، لقد لعبت هذه دوراً كبيراً في دحض رواية النظام ومناصريه، وقد تركت أثراً كبيراً في الرأي العام، حتى لو كانت بكاميرا شرطي من قلب النظام، كتلك التي فضحت مقتل أحد عشر ألف معتقل تحت التعذيب في سجون النظام. ومثلها صور الذين قضوا جوعاً في مخيم اليرموك، صور كان لها أثر صورِ الهولوكست في ضمائر الناس، ولعلها مما لا يمكن محوه من الذاكرة إلى أمد طويل.
كذلك ساهمت صور وجدت طريقها عبر صفحات فيسبوكية في تغذية صفحات الجرائد ووكالات الأنباء بصور قوية التأثير، كتلك التي يمكن مشاهدتها في صفحات مثل “عدسة شاب دمشقي”، “عدسة ختيار فلسطيني”، وسواها من صفحات. لا شك أن طول أمد الحصار كان له أثر في دعم صور الناشطين. تحت الحصار لم يعد المصور يهتم فقط بالصورة كخبر، فقد تعلّم أخيراً أن يصور الحياة اليومية للسوريين، كيف يعيش الناس تحت الحصار، كيف يقضون أيامهم، وكذلك سنجد كماً كبيراً من الصور يركز على عناصر الحياة في صورة كل ما فيها مدمّر، كأن تجد كيس خبز في يد شهيد ملقى أرضاً وسط الدمار، أو كيف حوّل الأطفال المدفع أو الدبابة إلى لعبة.
صور النزوح كانت إحدى أبرز موضوعات التصوير في سوريا، فهي تقريباً الأسهل بين مختلف الموضوعات، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالنازحين في أماكن عيشهم الجديد “الآمن”. أما الأكثر خطورة فهي تلك الصورة التي تترصد بقصف النظام، تماماً كما يترصد النظام بها. إنها لحظة المواجهة القصوى بين عين الكاميرا وفوهة المدفع. لقد حدث أن سجلت الكاميرا تلك اللحظة الأسطورية، حيث الكاميرا تصّر على ملاحقة المدفع، أو القناص، بمقدار ما يصر الأخير على ملاحقتها. وقد يكون لدى السوريين اليوم، مع الأسف، أكبر أرشيف من صور القصف وإلقاء البراميل وهجمات الطائرات الغادرة.
الكاميرا التي تحدت، تظاهرت، واعتقلت، أو استشهدت، أو بقيت تحت الحصار وخاضت تلك المواجهة الأسطورية، يصعب بعد الآن أن تعود إلى سباتها. لقد قالت الكاميرا كلمتها، نعني صورتها، تلك التي بألف كلمة، فمتى يكتفي العالم؟
المدن